لما بين تبارك وتعالى وعيده الشديد كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8] أتبعه بما دل على أن هذا الوعيد من حقه أن يتأخر عن الدنيا؛ لأنه إذا حصل لهم في الدنيا وعاينوه في الدنيا، فإن هذه المعاينة تكون مانعاً من بقاء التكليف.
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يكشف الحجب لجميع الخلق فيرون الجنة عياناً ويرون النار عياناً، ويرون الملائكة وغيرها من الغيبيات، ففي هذه الحالة ستنتقل الدنيا من كونها دار عمل إلى دار جزاء، ولم يبق للتكليف معنى؛ لأننا إذا عاينا هذه الآيات آمن الناس كلهم كما قص الله سبحانه وتعالى أن الكفار يوم القيامة يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] فهذا يقين اضطراري.
وكذلك إذا حصل أن كشفت الحجب ورأوا هذه الغيبيات فإنه لن يحصل تفاضل في الإيمان بين الناس؛ لأن الإيمان بالغيب هو أول صفة من صفات المتقين في القرآن الكريم.
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3].
وهذا الإيمان الاضطراري لا ينجي، وإنما ينجي المرء الإيمان الاختياري، فهذا فرعون آمن إيماناً اضطرارياً حينما عاين الموت، وقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فلم ينفعه ذلك؛ لأن العبرة بأن يؤمن الإنسان بالغيب في حالة الاختيار؛ لأنه يعمل عقله ويتفكر ويتدبر ويبذل جهداً، لكن إذا كشفت له الحجب فإنه سيؤمن إيماناً اضطرارياً.
ومن حكمته أنه حليم على هؤلاء الذين يحاربون دين الله سبحانه وتعالى ليل نهار في كل أطراف الأرض، فهم يعذبون المسلمين ويذبحونهم، ويبارزون الله بالمعاصي، ويعبدون الشيطان والأوثان والكواكب والبشر، فهؤلاء سوف يستوون جميعاً في الإيمان إذا كشفت لهم الحجب في الدنيا، وذلك يتنافى مع استمرار الابتلاء والامتحان بالتكليف في هذه الدار الدنيا.