كنت أود أن نتجاوز ذكر الحديث الطويل حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، لكن الإنسان يضنُّ بأن يفوت هذا الحديث العظيم الذي فيه كثير من العبر والفوائد، فنجتهد إن شاء الله تعالى في تلاوته بقدر المستطاع بدون تعليقات كثيرة.
روى الإمام أحمد والشيخان حديث قصة كعب وصاحبيه مبسوطاً بما يوضح هذه الآية، قال الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، وكان قائد كعب من بنيه -لأنه عمي فكان ابنه هذا هو قائده-، قال: سمعت كعباً يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك -وهذا الحديث قطعة أدبية في غاية من الروعة ومن البلاغة- يقول كعب رضي الله تعالى عنه: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزاة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يُعاتَب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ -يعني: لم يكن هناك ديوان- قال كعب: فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصعر -يعني: أميل- فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه، فغدوت بعد لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم، وليتني فعلت! ثم لم يقدر ذلك لي.
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: (ما فعل كعب بن مالك؟)، فقال رجل من بني سلمة: حبسه -يا رسول الله- برداه والنظر في عطفيه -يعني: اغتابه، وقال: احتبس عن الجهاد بالتأنق في برديه والنظر في عطفيه في المرآة، يعني: للتزين -فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله! يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً- وهكذا الإنسان إذا حضر مجلس اللحامين آكلي لحوم البشر الغيابين، يبادر بقوله: بئسما قلت، ويدفع عن أخيه بظهر الغيب - فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً -راجعاً من تبوك- حضرني بثي، وطفقت أتذكر الكذب -أي: حضر الحزن لما علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام راجع إلى المدينة من تبوك، وطفق يتذكر ماذا سيكون المخرج؟ فكان المخرج أمامه هو أن يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام- وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه -أي: عزمت على أن أكون صادقاً- فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلاً المدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: (تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهراً؟) فقلت: يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت، لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه -يعني: تحزن مني بسببه- إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك).
فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة، واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت -يعني: ما قدرت- ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي معي هذا أحد؟ -المصيبة إذا عمت طابت، فتخف المصيبة إذا كانت على جماعة- قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: فمن هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي.
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف -نهى الصحابة أن يتكلم أحد مع هؤلاء الثلاثة دون الآخرين من المنافقين- فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم -يسلم عليه- وأقول في نفسي: أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي -فانظر إلى المحبة المتبادلة بينه وبين الرسول عليه السلام، ومع ذلك الرسول أمسك عن كلامه- فإذا التفت نحوه أعرض عني صلى الله عليه وسلم، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام- امتثالاً لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام- فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: فسكت، قال: فعدت فناشدته -استحلفته- فسكت، فعدت له فناشدته فسكت، فقال: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام -الأنباط: هم الفلاحون والزارعون من العجم والروم- ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان -يعني: أن جواسيس في المدينة نشروا الخبر حتى وصل لملك غسان، فملك غسان أراد أن يغريه بأن يعمل له لجوء سياسي- فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً، فإذا فيه: أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، قال: فقلت حين قرأته: وهذه أيضاً من البلاء -هذه أيضاً فتنة وبلاء، فانظر كيف صدق مع هذه الفتنة- قال: فتيممت بها التنور فسجرته به -رماه في الفرن- حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني ويقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها، قال: وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، تكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر ما يشاء.
قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: (لا، ولكن لا يقربك)، قالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، فإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا! فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته، وأنا رجل شاب! قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى عنا، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر -أي: أعلن توبة الله عليهم- فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبش