قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان، والأنفس مفتونة بمحبة الأموال والأنفس، استنزلهم لفرط عنايته بهم عن مقام محبة الأموال والأنفس بالتجارة الرابحة المربحة والمعاملة المرغوبة، بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم، فعوض لهم خيراً مما أخذ منهم، فالآية ترغيب في الجهاد لبيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، وهذا التعبير دقيق من القاسمي رحمه الله تعالى، فقوله: إن الآية ترغيب في الجهاد لبيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، ولم يقل: إن الآية ترغيب في الاستشهاد؛ لأن الآية تضمن هذا الوعد العظيم من التضحية في سبيل الله بالروح وبالمال وكذلك بالمشاركة في الجهاد حتى ولو سلم المجاهد؛ لأنه قال: (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) ولم يقل: فيقتلون فحسب، فدل على الترغيب في الجهاد بصفة عامة.
قال أبو السعود: ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تبارك وتعالى، وإثابته إياهم لمقابلتها بالجنة، عبر عن هذه المعاملة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يجعل الأمر على العكس.
يعني: لم يقل: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم؛ ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها، إيذاناً بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم، ثم إنه لم يقل تبارك وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة، وإنما قال: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)؛ مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم؛ لأنه لو قال: بالجنة وحسب يكون أضعف، لكن البلاغة كلها في قوله: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بأن -توكيد- لهم الجنة، يعني الجنة لهم، ففيها تقرير أو مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم، واختصاصه بهم أيضاً، كأنه قيل: الجنة الثابتة لهم المختصة بهم؛ وذلك لأن الإنسان مهما ضحى فكل تضحية سيوجد ما هو أعلى منها، فإذا ضحى الإنسان بمال وبأعراض الدنيا فإنه سيضحي في سبيل الله بما هو أعلى ألا وهي نفسه التي بين جنبيه، فليس هناك ما هو أعلى من التضحية بالنفس، ولذلك قال الشاعر: الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود يعني: ليس بعد الجود بالنفس مرتبة، ولذلك كافأهم الله سبحانه وتعالى عليها بهذه الصفقة.
ويقول جعفر الصادق رحمه الله تعالى: أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تشترى الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن أي: إذا أنفق الإنسان نفسه وروحه في سبيل الدنيا ستضيع الدنيا ويضيع الثمن عليه، لكن إذا خرج في سبيل الله وأذهب روحه في سبيل الله؛ سيبقى له هذا الثواب الجزيل العظيم.
ولا ترى ترغيباً في الجهاد بأحسن ولا أبلغ من هذه الآية؛ لأنه أبرزه في صورة عقد عقده وباشر العقد رب العزة سبحانه وتعالى، أما ثمنه فهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل المعقود عليه كونهم فقط شهداء، وإنما إذا كانوا قاتلين لإعلاء كلمته ونصر دينه، وجعل هذا العقد مسجلاً في الكتب السماوية، كما قال عز وجل: ((وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ)) وناهيك به من صك.
ووعد الله حق، ولا أحد أوفى من وعده، فنسيئته أقوى من نقد غيره في الحال؛ لأنه وعد الله سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد.
وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية، صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء بقوله تبارك وتعالى: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذه إشارة إلى مكان التسليم، كل عقد له أركان: البائع، والمشتري، والمبيع (الصفقة)، وأيضاً المكان، فبعض العقود يشترط فيها تحديد المكان، مثل عقد السلم، فهو من العقود التي لا بد فيها من تحديد مكان التسليم، فالله سبحانه وتعالى في هذا العقد أشار إلى مكان التسليم وهو ساحة الجهاد في سبيل الله حينما قال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وإنفاذ هذه الصفقة في المعركة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: (الجنة تحت ظلال السيوف).
ثم أمضاه عز وجل بقوله: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وفي هذا من البلاغة والنصائح المناسبة للمقام، فهم لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازاً عن الاستبدال، وإن ذكروه في غير هذا الموضع؛ لأن قوله تعالى: (إن الله اشترى) يقتضي أنه شراء وبيع، وقوله هنا: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ) فهذا أيضاً يقتضي أنه شراء وبيع، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل.
قوله: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلاً، لكن هو لا بد من حصوله؛ لأنه وعد من الله سبحانه وتعالى، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها بقوله: (فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أيضاً تأكيد له، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار.
وفيها: أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين على تحريفهما ما يشير إلى الجهاد والحث عليه، نقله عنهما من رد على الكتابيين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك، ففي بعض نصوص التوراة وبعض نصوص الإنجيل -رغم التحريف الذي طرأ عليهما- إثبات شريعة الجهاد في رسالة موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويمكن أن يرجع إلى ذلك إلى الكتب المتداولة في دحض عقائد النصارى مثل كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي، ففي هذا الكتاب فصل مستقل في أن الجهاد ليس من خصائص الإسلام.