دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار أنه لا حكم له ولا حرمة، ولا يصح الوقف عليه، وقد حرق الراضي بالله كثيراً من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة.
وقال الزمخشري: قيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب؛ فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة، فقيل له: مسجد بني عامر لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً.
وعن عطاء قال: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه.
فبناء المسجد للإضرار بالمسجد الآخر من الضرار؛ لأن الأمر يصير فوضى، والآن الفوضى ليس فقط في المساجد، بل فوضى في كل شيء، فوضى في طباعة المصاحف، فكثرة نزول المصاحف بهذه الطريقة غير صحيح، لابد أن تكون هناك ضوابط لتوزيع المصاحف، حتى إن بعض محلات النصارى يبيعون فيها المصاحف، فيمكّن النصراني من مس المصحف وبيعه والاتجار به، فوضى عارمة، فموضوع المساجد فيها فوضى، تجد الآن في الشارع الواحد مسجداً وأمامه مسجد، وبين كل مسجد ومسجد مسجد! فوضى تكاد تقضي تماماً على حكمة تشريع صلاة الجماعة، حيث يتناحر الناس وتحصل بينهم الفتن، فمنذ أسابيع قليلة قام الخطيب على المنبر ليخطب الجمعة، وهناك مسجد آخر على بعد خطوات قليلة، وأهل المسجد سلطوا الميكروفون على هذا المسجد، فالإمام على المنبر لا يستطيع أن ينطق بكلمة واحدة، فاختصر الخطبة في أقل من ثلاث دقائق؛ لأنه ما استطاع أن يخطب من شدة الأذية والإضرار الذي حصل من تسليط مكبر الصوت بطريقة سيئة جداً، حتى أن الخطيب اضطر إلى اختصار الخطبة إلى أقصى ما تتخيلوا، ونزل صلى وما عرف حتى يصلي، فهذا من أقبح صور الضرار! نقول: ما دام المنطقة الواحدة فيها مسجد جامع فالناس يجتمعون فيه، أما أن يكون بهذه الفوضى التي تحصل الآن، فهذا قضاء على الحكمة من تشريع الجماعة، وفيه معنى من معاني الضرار كما ذكرنا.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قال علماؤنا: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه؛ لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد، فيبنى حينئذ.
وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان أو ثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه، فقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه.
وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر.
قلت: هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً يتعبدون فيه بزعمهم، كالمسجد لنا فافترقا.
وقال علماؤنا رحمهم الله تعالى: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه بقوله: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) يهدم ويُزال إذا كان فيه ضرر لغيره، فما ظنك بسواه، بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم، وذلك كمن بنى فرناً أو رحىً أو حفر بئراً أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على غيره.
وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضرر الداخل من الفعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول، مثال ذلك: رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه، وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم، وقد ورد النهي عنه، فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح، مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر؛ لكنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما، وهذا الحكم في هذا الباب خلافاً للشافعي ومن قال بقوله، قال أصحاب الشافعي: لو حفر رجل في ملكه بئراً وحفر آخر في ملكه بئراً يسرق منها ماء البئر الأول جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك.
أورد القرطبي هذا الكلام منتقداً للشافعية.
ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآن والسنة يردان هذا القول وبالله التوفيق.
والقاعدة تقول: لا ضرر ولا ضرار، فلا يحفر الشخص بئراً في أرضه بحيث يغور بئر جاره فيضر به، أو يجعل في أرضه مكاناً لقضاء الحاجة فتتسرب النجاسة إلى بئر جاره وتفسد عليه ماء بئره، هذا كله مما يرده القرآن والسنة.
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه مثل: دخان الفرن، كأن يقوم شخص ببناء فرن تحت عمارة يخرج منه دخان يؤذي الساكنين، فهذا من الأذية، وكذلك غبار الأندر، وهو المكان الذي يداس فيه الحبوب.
ثم يقول: والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه، وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب، فإن هذا مما لا غنى للناس عنه، وليس مما يستحق به شيء، فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم، فأكبر الصبر على ذلك مقدار ساعة شيء يسير، وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر، كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه.
على أي الأحوال مراعاة الجار بالذات في موضوع الإضرار أمر مهم جداً يجب مراعاته، حتى القوانين الوضعية تحاول أن تحميه، لكن يبلغ الناس أحياناً في العناد مبلغاً عجيباً جداً، لقد سمعت عن حادثة وهي أن رجلاً بنى بيتاً عالياً بجوار فلة منخفضة، والسور مشترك بين الفلة وبين هذه العمارة، فصاحب العمارة قام وفتح نافذة تطل على هذه الفلة، فحصلت قضايا ومشاكل انتهت بأن قام صاحب الفلة بعمارة الدور الأخير ورد الجدار للخلف قليلاً، بحيث يعمل فيه (بلكونة) في هذا الجدار، وفتح فيها نافذة باتجاه صاحب العمارة، فصاحب العمارة عاند وقام ببناء سور للعمارة عالياً من الأرض إلى آخر دور؛ ليسد على جاره (البلكونة) الجديدة التي بناها، حتى يمنعه من أن ينتفع بهذه الفتحة!