رد الصديق رضي الله عنه على من تأول من بعض العرب هذه الآية: أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه وسلامه؛ لأنه المأمور بالأخذ، وبالصلاة على المتصدقين، فغيره لا يقوم مقامه، وأمر بقتالهم، فاهماً من هذه الآية العموم، وهو أن الزكاة ينبغي أن تؤدى لرسول الله أو من يخلفه بعد موته، فوافقه الصحابة وقاتلوهم، حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يُؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء المتأولون المرتدون، غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سداً لحاجة المعدم، وتفريجاً لكربة الغارم، وتحريراً لرقاب المستعبدين، وتيسيراً لأبناء السبيل، فاستل بذلك ضغائن أهل الفاقة على من فضلوا عليهم في الرزق، حتى لا يحصل حقد طبقي في المجتمع، ويحتد الفقراء على الأغنياء، فأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء، وأفاض الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين، فالإمام وولي الأمر لا خصوصية لذاته فيها؛ لأن وظيفته أن يجمع هذا المال من الأغنياء ثم يرده إلى الفقراء، فسواء فعل ذلك الرسول عليه السلام في حياته أو نائبه بعد مماته صلى الله عليه وآله وسلم، فالمقصود قد حصل.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وعلى القول الأول -يعني: أنها زكاة الفريضة- فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه، وزوالها بموته، وبهذا تعلق مانعوا الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقالوا: إنه كان يعطينا عوضاً منها: التطهير، والتزكية، والصلاة علينا، وقد عدمناه من غيره، وهل دعاء غير الرسول عليه السلام يكون كدعائه هو؟! فمن ثم نحن لا نعطي هذه الصدقات، ونظم في ذلك شاعرهم فقال: أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجباً ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم كالتمر أو أحلى لديهم من التمر فنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
وقال ابن العربي: أما قولهم: إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن، غافل عن مآخذ الشريعة، متلاعب بالدين، فإن الخطاب في القرآن لم يرد باباً واحداً، ولكن اختلفت موارده على وجوه -يعني: خطاب القرآن على عدة أنواع، وليس على نوع واحد- فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183].
ومنها خطاب خص به، أي: خص به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أبداً أن يباح -في حال- لأي إنسان من المسلمين، كأن تهب امرأة نفسها لرجل فتصير زوجة له، وهذا لا يجوز إلا للنبي عليه السلام بنص القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، يعني: هذا حكم خاص بك، لا يشركك فيه أحد من المؤمنين.
ومنها خطاب خص به لفظاً وشركه جميع الأمة معنىً وفعلاً، يعني: إن اللفظ نفسه يخاطب الرسول عليه السلام، لكن من حيث المعنى يشاركه فيه جميع الأمة، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فهنا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنه خطاب له وللأمة معه.
كذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98]، هل هذا خاص بالرسول عليه السلام؟ هذا الخطاب من حيث اللفظ هو للرسول، لكن من حيث المعنى تشاركه الأمة في حكمه.
ومنها قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] إلى آخره، في صلاة الخوف، خطاب له عليه الصلاة والسلام، ولكنه يعم كل من أراد أن يقيم صلاة الخوف، فيقيمها على تلك الصفة المذكورة.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فلفظ الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الحكم والمعنى يسري على أمته.
وعلى هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، وقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1].
إذاً: هذا هو الرد على استدلال مانعي الزكاة الذين قالوا: نحن لا نبذل الزكاة لغير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأخذوا بظاهر هذه الآية الكريمة! قوله تبارك وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة): مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا فيه تبيين مقدار المأخوذ منه، وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع، وهذه من مواضع الإجمال في القرآن الكريم، ثم فسرتها السنة، كما هو حال كثير من الأحكام الشرعية: كالطهارة والصلاة والحج وغير ذلك، فهنا أتى الأمر مجملاً ثم فصلته السنة وبينت أنواع الزكاة، ومن الذي تؤخذ منه الزكاة؟ وما مصارف الزكاة؟ وغير ذلك مما هو معلوم.