ولما بين الله تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الجهاد، رغبة عنه وتكذيباً وشكاً، بين حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة، فقال عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102].
قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) أي: أقروا بها وهي تخلفهم عن الغزو، وإيثار الدعة عليه، والرضا بجوار المنافقين، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، فهذه ميزة هذا الفريق، أما المنافقون فقد استجنوا بالأيمان الكاذبة، وأتوا بالأعذار الواهية.
ثم قال: ((خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)) خلطوا عملاً صالحاً: كالندم، وقيل: ما سبق قبل معصية التخلف من الأعمال الصالحة التي عملوها، (وآخر سيئاً) وهو التخلف عن الجهاد.
((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) أي: يقبل توبتهم (إن الله غفور رحيم) أي: يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
وفي قوله تعالى: (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال ابن جرير: وضع الواو مكان الباء، يعني: أصلها (خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئاً)، كما تقول: خلطت الماء واللبن أي: خلطت الماء باللبن.
ففي هذه الآية الكريمة تنبيه على نفي القول بالمحابطة، فتعبير (خلطوا) معناه: أن العمل الصالح باقٍ كما هو، وأنه لم يحبَط بالعمل السيئ، وهذه بشارة للمؤمنين، وهي أن المؤمن إذا ارتكب معصية فإنها لا تحبط العمل الصالح الذي كان قبل، وهناك موضع آخر في القرآن له نفس هذه الدلالة وهو قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، ومعلوم أن مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك كان من المهاجرين، فدلت الآية على أن ما تلبس به من الإفك -نتيجة خوضه في حادثة الإفك- لم يمح عنه صفة الهجرة، ولم يحبط ثواب هجرته، وهذا يدل على أن الكبائر لا تحبط الأعمال الصالحة المتقدمة.
أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا على أنهم تخلفوا وأيقنوا بالهلاك، فقالوا: نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد، والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، فربطوا أنفسهم في سواري المسجد -وكان هذا منهم تعبيراً عن التوبة والاعتذار- وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فرآهم في المسجد موثقين بالسواري، فقال: (من هؤلاء الموثقون بالسواري؟!) فقال رجل: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم، فقال: (لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم)، فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم، لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم من بعد: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106]، فجعل أناس يقولون: هلكوا لما نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وفريق آخر كانوا يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، انتظروا وتريثوا عسى الله أن يتوب عليهم، حتى نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] إلى آخره.
وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه وزاد: فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا، فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً)، فأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين، وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه، يعني: أن هذه الآية نزلت في أبي لبابة في موقف آخر، وهو حينما أشار إلى بني قريظة بالذبح لما شاوروه: هل ينزل على حكم سعد؟ فقال لهم: هكذا، وأشار إلى عنقه، يعني: لو نزلتم على حكم سعد فسيكون الذبح، فهذا أيضاً مما قيل في هذه الآية.
وروى البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: أتاني الليلة آتيان، فابتعثاني، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال، شطر من خلفهم كأحسن ما أن ترى، وشطر كأقبح ما أن ترى، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وذاك منزلك، ثم قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم).
وفي هذه الآية الكريمة نوع من البديع يسمى الاحتباك، وهو مشهور؛ لأن المعنى: خلطوا عملاً صالحاً بسيئ، وآخر سيئاً بصالح.
قال الرازي: هاهنا
Q وهو أن كلمة (عسى) شك، وهو في حق الله تعالى محال، وجوابه من وجوه، قال المفسرون: كلمة (عسى) من الله واجبة؛ لأن (عسى) من أفعال الترجي، فالله سبحانه وتعالى لا يصح هذا المعنى في حقه عز وجل، وهو الذي يحتمل الشك في الوقوع؛ ولذلك (عسى) من الله واجبة، فأي كلمة (عسى) في القرآن الكريم فهي من الله واجبة، والدليل عليه قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:52]، وقد فعل ذلك، وتحقيق القول فيه: أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، وصاحب السلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً، فإن صاحب السلطان لا يجيبه إلا على سبيل الترجي، بكلمة (عسى) أو (لعل)، لماذا؟ تنبيهاً لعظمة سلطانه، فليس لأحد من خدمه أو حشمه أن يلزمه شيئاً، فإذا فعل ما طلب منه فإنما يفعله على سبيل التفضل والإحسان، وهذا هو فائدة ذكر (عسى)، وهذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن المقصود ما يجب أن يكون المكلف عليه من الطمع والإشفاق؛ بعيداً عن الاتكال والإهمال، وقال القاشاني: الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد، ولين الشكيمة، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه؛ لأنه ملك الرجوع والتوبة، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة من كلمة: (اعترفوا بذنوبهم)، أي: أن كلمة (اعترفوا) تدل على أن أحدهم نظر إلى ذنبه باعتباره فعلاً قبيحاً، واستقباح ما يفعله الإنسان لا يكون إلا بنور البصيرة، وانفتاح عين القلب، إذ لو ارتكمت الظلمة على قلبه ورسخت الرذيلة ما استقبحه، فكون الإنسان يستقبح المعصية فهذا يدل على بقاء نور البصيرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن)، بخلاف من يزين له سوء العمل فيراه حسناً، فهل هذا يتوب؟! وهذا شأن المبتدع، المبتدع يزين له سوء عمله ويرى القبيح حسناً، وفي الحديث: (إن الله احتجز التوبة على كل صاحب بدعة).
فمتى ما اعترف الإنسان أن هذا الفعل الذي فعله ذنب، واستقبحه وندم عليه، فهذا يدل على أن في هذا الإنسان خيراً.