هاهنا بعض التنبيهات المهمة: أولاً: الصدقة أو إنفاق المال ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، إما أن يكون واجباً مفروضاً كالزكاة، وإما أن يكون نافلة، وهو المراد هنا، لقوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين)، وأصلها: المتطوعين، فهذا يدل على أن المقصود هنا صدقة النافلة أو التطوع.
ثانياً: أن الآتي بالصدقة إما أن يكون غنياً وإما أن يكون فقيراً، فالغني لغناه يأتي بالصدقة الوفيرة الكثيرة كـ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، والفقير يأتي بالصدقة القليلة ويأتي بجهد المقل، ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب، فمن حيث الثواب لا ينظر إلى قدر الصدقة؛ لأن المقصود من الأعمال الظاهرة النية، واعتبار حال الدواعي والفوارق، فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعاً عند الله سبحانه وتعالى من الكثير الذي يأتي به الغني.
ثالثاً: أن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور؛ لأن نظرهم قاصر فهم نظروا للكمية وللقدر، فالذي أتى بالكثير قالوا: هذا رياء، والذي أتى بالقليل قالوا: هذا أحوج إلى صدقته، فما كان يتجاوز نظرهم ظواهر الأمور، فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة على أساس أن هذه لا يرجى من ورائها ثواب لأنها قليلة، وهذا قد أبطله قول النبي عليه الصلاة والسلام: (سبق درهم مائة ألف درهم) يعني: رجل تصدق بدرهم سبق وحاز على أجر أفضل من أجر رجل تصدق بمائة ألف درهم! قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟! قال: (رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف).
فإذاً كما يقال: نية المؤمن أبلغ من عمله، فالإنسان يجازى على قدر همته، فهذا الرجل كل الثروة التي يملكها درهمان اثنان فقط، فماذا فعل؟ لا نقول تصدق: بدرهم، لا بل نقول: تصدق بنصف ما يملك، أما الرجل الآخر فله مال كثير، فأخذ من عرض هذه الأموال، فهو عمد إلى جانب من جوانب هذا المال فأخذه، فكان مائة ألف درهم، فبالنسبة للمال الذي يملكه هو دون النصف بكثير، لكن هذا همته أنه تصدق بنصف ماله، أما هذا فجزء يسير من عرض ماله.
وهذا رجل لفقهه تصدق بنصف ماله، درهم له وأمسك درهماً لنفقته أو نفقة عياله، فإذاً الأجر على قدر حال المعطي لا على قدر المال المعطى، وعلى قدر الهمة، وحال المتصدقين، فصاحب الدرهم أعطى نصف ماله وهو في حالة لا يعطي فيها إلا أصحاب اليقين الأقوياء في الإيمان، حيث يضحي بنصف ماله، فيكون أجره على قدر همته، بخلاف الغني فإنه ما أعطى نصف ماله، ولا كان في حال لا يعطى فيها عادة؛ لأنه هنا غير محتاج، وإذا أعطى فإن هذا لا يؤثر في حاله بشيء.
وهناك تفسير آخر لكنه مرجوح، وهو: تفسير الحديث بأن الفقير بدأ بالصدقة أولاً؛ فالغني اقتدى به في الصدقة، فبالتالي ينطبق عليه حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، فيصبح للفقير مثل أجر الغني وزيادة عليه بدرهم، له أجر صدقة مائة ألف درهم ويزيد عليه درهم واحد، ولكن هذا بعيد؛ لأن ظاهر الحديث أن هذا حصل في وقت واحد من رجلين، لأنه قال: (سبق درهم مائة ألف)، والحديث رواه النسائي وابن خزيمة وصححاه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أي الصدقات أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، وقال: (أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى)، أي: في حالة احتياج وخصاصة ومع ذلك تتصدق، لكن شرط صحة هذه الصدقة أن يبدأ بمن يعول، ولذلك قال: (جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما زاد عن النفقة الواجبة.