سبب نزول قوله: (وهموا بما لم ينالوا)

قوله تعالى: (وهموا بما لم ينالوا) هموا أن يفعلوا شيئاً لم يمكنهم الله منه، قال ابن كثير: قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد؛ وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، ففيهم نزلت هذه الآية.

فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد قال: أخبرني الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: (لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد).

والعقبة هي ارتفاع كبير في الجبل، ويكون على حافة الهاوية، فنادى المنادي أن الرسول عليه السلام مشى الآن في العقبة فلا يقرب أحد منها؛ لأنها ستكون ضيقة، وقد يؤدي الازدحام إلى خطر السقوط.

فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود دابته من الأمام حذيفة ويسوق به من الخلف عمار؛ إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار رضي الله تعالى عنه يضرب وجوه الرواحل، ليطردهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي بعض الروايات: أن حذيفة قال: إليكم إليكم يا أعداء الله! فهربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل لـ حذيفة: قد قد، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ورجع عمار فقال: يا عمار! هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم! قال: أرادوا أن ينفروا -يعني الناقة- برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه!) فساب عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناشدتك بالله! كم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلاً، فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم، قال: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

هذا ما قيل في قوله تعالى: ((وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)) أي: بما لم يمكنهم تحقيقه من الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم.

(ما نقموا) يعني: ما أنكروا وما عابوا، (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) يعني: أعطاهم الله ورسوله من فضله، فعملوا بضد الواجب، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم وتفضله عليهم النقمة، ولا ذنب له إلا تفضله صلى الله عليه وسلم عليهم! وقد سبق أن أشرنا إلى هذا في مثل قوله تبارك وتعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] أي: تجعلون شكر النعم والرزق الذي ساقه الله إليكم أنكم تكذبون رسل الله، وتكفرون بالله، فهل هذا الكفر والجحود يصلح في مقابلة إحسان الله إليكم؟! {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فهذا على حد قولهم: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك! فهذا ليس في الحقيقة ذنباً، ومنه قولهم في المثل المشهور: (اتق شر من أحسنت إليه)، وقد قيل للبجلي: أتجد في كتاب الله تعالى: اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم.

((وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)).

ومن هذا الباب أيضاً قول ابن قيس الرقيات: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا تصلح إلا عليهم العرب فالشاهد هنا في قوله: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم، أي: قبيلة أمية يحلمون ويصطبرون إن غضبوا، فهل هذا ينقم؟ هذا لا ينقم وهذا لا ينكر.

ومنه أيضاً قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب يمدح قومه ويقول: لا شك أن فلول السيف كناية عن الشجاعة؛ لأن السيف يكون فيه خدش من شدة القتال والبأس، فهذا في الحقيقة ليس ذماً، وهذه مبالغة وتوكيد للمدح بما يشبه الذم، ظاهره الذم لكن يراد به المدح.

ويقال: نقم من فلان الإحسان كعلم، إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015