قال تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:27] يعني: على من يشاء منهم لحكمة تقتضيه، والمقصود أن الله يوفقه للإسلام.
((وَاللَّهُ غَفُورٌ))، يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي.
((رَحِيمٌ)) أي: يتفضل عليهم ويثيبهم.
وقصة غزوة حنين تبدأ بخروج الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة والتي تسمى بغزوة هوازن أو أوطاس أو حنين، وكان في الجيش جمع كبير من الطلقاء الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، وفي الطريق وقعت حادثة ذات أنواط، وهي واقعة معروفة.
ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة، فتوسطوه في غبش الصبح، وقد كمنت لهم هوازن في جانبيه، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وقد كانوا قالوا من قبل لما رأوا كثرة عددهم وقلة المشركين: لن نغلب اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم، وناداهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا، يعني: بعدما فروا، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحارث والفضل وقثم بن العباس وجماعة سواهم، والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء (دلدل)، والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي الأنصار وأصحاب الشجرة -قيل: والمهاجرين-: فلما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم، ويعودوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتناولوا سيوفهم، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة، فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون، واشتدت الحرب وحمي الوطيس، ولما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، وقال: (شاهت الوجوه) فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب، فلم يملكوا أنفسهم فولوا منهزمين، ولحق آخر الناس، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم؛ لأنهم كانوا خرجوا بالعيال وبالأموال، واستمر القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم يومئذٍ سبعون رجلاً، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة، وانهزم المشركون، وانفضت جموع أهل هوازن كلها، واستشهد من المسلمين يومئذٍ أربعة، ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها، وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى، والإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين، ونفل كثيراً من الطلقاء يتألفهم على الإسلام.
وقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد فصلاً حول غزوة حنين أجاد فيه، فقال: كان الله عز وجل قد وعد رسوله -وهو صادق الوعد- أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجاً، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا هوازن ويتألبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ ليظهر الله أمره وتمام إعجازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر الله سبحانه لرسوله وعباده قهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدوا للمتوسمين.
فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعدتهم وقوة شوكتهم، ليخفض رءوساً رفعت بالفتح -كي يتعلموا التواضع، وينزع من قلوبهم العجب والخيلاء-، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد أن تمس فرسه تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته، واستكاناً لعزته أن أحل له حرمه وبلده، ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وليبين الله لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره الله فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئاً فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليهم خلع الجبر مع بريد النصر، ((ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا)).
وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار، وعلى أهل التواضع، كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].
ومن فوائد هذه الغزوة: أن الله سبحانه وتعالى لما منع الجيش غنائم أهل مكة، فلم يغنموا منها ذهباً ولا فضة ولا متاعاً ولا سبياً ولا أرضاً؛ فحرك سبحانه وتعالى قلوب المشركين لغزوهم، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشياههم وسبيهم معهم نزلاً وضيافة، وكرامة لحزبه وجنده، وتمم تقديره بأن أطمع المشركين في الظفر، فلذلك خرجوا بالأموال والأولاد والنساء وكل ما يملكون، وألاح لهم مبادئ النصر، حينما انهزم المسلمون في البداية {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42].
فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه، وبرزت الغنائم لأهلها؛ وجرت فيها سهام الله ورسوله، قيل: لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاءوا مسلمين، فقيل: إن من شكران إسلامكم وإتيانكم أن رد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم، {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70].
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى افتتح غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر، فيقال دائماً: بدر وحنين، وإن كان بينهما سبع سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزوتين، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما، وبهاتين الغزاتين طفئت شعلة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، الأولى: غزوة بدر خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية: استفرغت قواهم تماماً، واستنفذت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بداً من الدخول في دين الله.
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جبر بها أهل مكة بما نالوه من النصر والمغنم، وكانت كالدواء لما نالوا من كسرهم وإن كان عين جبرهم، وعرفهم تمام نعمه عليهم لما صرف عنهم من شر هوازن، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين؛ ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم، إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تبارك وتعالى.
قال بعضهم: دلت الآية على أنه يجب الانقطاع إلى الله تعالى والاتكال عليه.
ودل ما حكي في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصى حالة الحرب، والأصوات التي يرهب بها.
ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين -مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر- تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فالآيات السابقة حذرت من موالاة المشركين، فبعدما بين الله سبحانه وتعالى أن موالاة المشركين لا يأتي منها فائدة، بين هنا أنه يأتي منها ضرر، ولا يحصل بها التقوي والنصر على المشركين، بل تضر ضرراً أخطر، وهو سريان النجاسة التي في بواطن المشركين إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28].