قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، وذلك لما أوعدهم النبي عليه الصلاة والسلام وخوفهم بالنار ردوا وقالوا: لن تصيبنا النار إلا أياماً معدودة قليلة، ووصفها بمعدودة وصف دقيق جداً في التعبير عن هذا المعنى، يعني: حتى لو دخلنا النار فلن نخلد فيها: هذا كلام اليهود، لماذا؟ لأن كل معدود منقضي، وانظر إلى رمضان يقول الله تبارك وتعالى فيه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، فما دام أن له عدداً فلابد أن ينقضي، ولذلك وصفها الله تعالى بأنها أياماً معدودات، فكل معدود منقضي، ولذلك قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، فهم يريدون أن يقولوا: حتى وإن دخلنا النار فلن نخلد فيها، ولن نمكث فيها إلا أياماً معدودات، وقد اختلف المفسرون في هذه الأيام المعدودات: فقال بعضهم -كما ذكر السيوطي -: هي أربعون يوماً مدة عبادة آبائهم العجل، أي: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوماً فسيبقون في النار أربعين يوماً فقط.
وبعضهم قال: سبعة أيام؛ لأن اليهود يزعمون أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وعن كل ألف سنة سيعذبون يوماً، وبالتالي يبقون في النار سبعة أيام.
{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} [البقرة:80] يعني: بأن الله سبحانه وتعالى لن يعذبكم سوى هذا المقدار! (قل)، قل لهم يا محمد.
(أتخذتم) أصلها: (أأتخذتم) فحذفت منها همزة الوصل استغناءً بهمزة الاستفهام، (قل أتخذتم عند الله عهداً) أي: ميثاقاً من الله بذلك.
{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة:80] يعني: إذا كان الله فعلاً وعدكم بهذا فلن يخلف عهده، لكن هذا لم يحصل وليس عندكم عهد من الله تبارك وتعالى بذلك.
{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80]، (أم) هذه منقطعة مقدرة ببل والهمزة، يعني: بل أتقولون على الله ما لا تعلمون؟! (بَلَى)، يعني بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، هذا هو المقصود.
قال تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين، لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، فيتعين على من أخطأ خطأ واحداً أن يدخل النار، ولابد من امتحانه في الدنيا، وأما من قال بالعكس فهذا لا يعلم عقيدته، لأن هذه عقيدة الخوارج، والسنة قد تواترت بخروج عصاة الموحدين من النار؛ فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، ويؤيد ذلك كونها نازلةً في اليهود، يعني: من كسب سيئة مثل سيئتكم، وكفر مثل كفركم أيها اليهود؛ فمجرد اكتساب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لابد أن يكون سببه محيطاً به، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة:81] أي: غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة، وسدت عليه هذه الخطيئة مسالك النجاة بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود، وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة، يعني: له حسنات ولكن هذه الحسنات تغمر في هذا البحر المحيط به من كل جانب وهو هذه الخطيئة التي هي خطيئة الشرك، فتحبط كل ما عنده من أعمال صالحة.
والقاعدة: أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، وهنا الخلود في النار معلق على أمرين فلا يتم بواحد منهما، حتى لو قلنا بأن السيئة معصية، لكن إذا انضمت إليها الخطيئة التي تحيط به تماماً بحيث تبطل كل عمله، وهي الشرك، حينها يقع في النار.
إن اكتساب السيئة وحدها لا يتوجب به الخلود في النار إذا قلنا بأن السيئة هي المعصية، وذلك حتى تنضم إليها خطيئته بالشرك، فتحيط به من كل جانب، وتبطل كل أعماله الصالحة، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
مثلاً: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، لا تتنزل عليهم الملائكة إلا إذا جمعوا بين الأمرين: يقولون: ربنا الله، ثم يستقيمون، كذلك حديث: (قل: آمنت بالله، ثم استقم)، فالمعلق على شرطين لا يتم بواحد منهما، فلابد من انتفاء الشرطين.
قال ابن جرير: قلت لـ عطاء: من كسب سيئة؟ قال: الشرك، وتلا، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل:89] أي: لا إله إلا الله وهي التوحيد، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90]، والسيئة المقصود بها هنا الشرك، ولذلك من أسماء كلمة التوحيد: كلمة النجاة، وهي لا إله إلا الله، ولها أسماء كثيرة منها الحسنة، وكذلك السيئة تطلق على الشرك.
إذاً: لابد إذا تكلمت عن تفسير هذه الآية أن تربطها بتلك الآية، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل:90] يعني: من جاء بالشرك، فالسيئة هنا مثل: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة:81].
وقوله تبارك وتعالى: (بلى) يعني: ليس الأمر كما ذكرتم، بل إنها سوف تمسكم النار وتخلدون فيها.
و (بلى) إثبات لما بعد حرف النفي، يعني: إذا سألت رجلاً فقلت له: ألم تعط نسخة من تفسير الجلالين؟ فيجيب بقوله: بلى.
يعني: أخذت، لكن لو قال: نعم، فيكون المعنى أنه لم يأخذ، فإذا كان السؤال فيه نفي بعد صيغة الاستفهام فيكون الجواب في حالة الإثبات بـ: بلى، مثل قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]، تقول: بلى.
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]، بلى، ولو قالوا: نعم.
لكفروا.
إذاً: (بلى) إثبات لما بعد حرف النفي، فقوله: (لن تمسنا النار)، يعني: بلى ستمسكم النار، ولو قال قائل: ألم تأخذ ديناراً؟ فقلت: نعم، لكان المعنى: لم آخذ ديناراً؛ لأنك حققت النفي وما بعده، فإذا قلت: بلى، صار المعنى قد أخذت.
قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الآخر: نعم، كان ذلك تصديقاً لئلا شيء له عليه، ولو قال: بلى كان رداً كقوله: لا، بل لي عندك شيء، وفي التنزيل: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، ولو قالوا: نعم لكفروا.
الخلاصة: (بلى) يعني: ليس الأمر كما زعمتم، بلى ستمسكم النار وتخلدون فيها.
(من كسب سيئة) شركاً.
(وأحاطت به خطيئته) هنا بالإفراد، وفي قراءة أخرى الجمع (خطيئاته) أي: استولت عليه وأحدقت به من كل جانب بأن مات مشركاً.
(فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) روعي فيه معنى (من)، لا لفظ (من)، فـ: (من) قد تكون مفرداً لكن باقي الآية تراعي المعنى؛ (من) يعبر في لفظها عن واحد، لكن من حيث المعنى بالجمع، فروعي في (من) هنا معنى الجمع، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).