وقوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يحتمل وجوهاً من المعاني: الوجه الأول: أنه تعالى يملك على المرء قلبه، يعني: اعلموا وتذكروا أن قلوبكم ليست ملكاً لكم، ولستم أنتم الذين تصرفونها وتوجهونها، وإنما مالك القلب هو الله سبحانه وتعالى وحده يصرفه كيف يشاء، فيحول بينه وبين الكفر إذا شاء له الهداية، ويحول بينه وبين الإيمان إذا أراد ضلالته.
وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس وصححه، وقاله غير واحد من السلف، ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقيل: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها)، رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس، وفي لفظ مسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد؛ يصرفها كيف شاء)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك)، وفي رواية: (إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه).
إذاً: المقصود من قوله تبارك وتعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) أن الله سبحانه وتعالى يملك القلب، ويتمكن منه، ويصرفه كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبه، فصاحب القلب نفسه الذي قلبه في بدنه لا يملك أن يوجه قلبه، لولا أن يتولى الله سبحانه وتعالى توجيهه.
فقوله تبارك وتعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يعني: إذا علمتم ذلك فخافوا على أنفسكم، واستعينوا بالله سبحانه وتعالى على أن يثبت قلوبكم على الإيمان؛ لأنه يحول بين المرء وقلبه.
وتخيل أنت الفرق الذي يكون بين الإنسان وقلبه الذي هو فيه، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يحول بين المرء وقلبه، فانظر إلى قدرة الله سبحانه وتعالى وتمام ربوبيته وتصريفه لأحوال الخلق، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما سمي القلب قلباً لتقلبه)، وقال عليه الصلاة والسلام ما معناه: (مثل القلب كمثل القدر إذا استجمعت غلياناً -أو- للقلب أشد اضطراباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً)، فالقدر بعد الغليان تتحرك فيه كل أجزاء السائل الذي يغلي، فكذلك القلب لا يعرف الثبات إلا أن يثبته الله سبحانه وتعالى.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ومثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تحركها الرياح)، فكلمة القلب مأخوذة من التقلب، فالقلب لو رفعت عنه عناية الله لا يثبت، بل يتقلب، إلا أن يثبته الله سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني في تفسير قوله عز وجل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)): أنه حث على المبادرة إلى الطاعة قبل حلول المنية، أي: بادروا إلى التوبة وإلى الطاعة قبل أن يأتيكم الموت، فمعنى يحول بينه وبين قلبه: يميته، فتفوته الفرصة التي هو واجدها، فالآن لم يحل الله بينك وبين قلبك؛ لأنك ما زلت حياً، والقلب يدق وينبض بالحياة، فإذا تبت قبلت توبتك، فبادر الآن لإصلاح حالك مع الله سبحانه وتعالى قبل أن يحول بينك وبين قلبك؛ لأن أصل التوبة وأساس التوبة هو القلب، ويحال بينك وبين قلبك بالموت.
فهذا معنى قوله عز وجل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ))، يعني: بحلول الموت، فلا تملك التوبة إذا حل الموت، فاستدرك واغتنم الفرصة الآن وقد وجدتها، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله، فأي إنسان إذا أصيب بمرض في عضلة القلب يفزع فزعاً شديداً، وهل يكون انفعال الإنسان بالمرض الذي في قلبه -العضلة نفسها- مثل أي ألم في أصابعه أو جلده أو في أي جهاز آخر؟ فأفزع ما يكون الإنسان إذا علم أن في قلبه مرضاً، فإنه يفزع ويخاف من الموت، ويهرول إلى الأطباء يلتمس عندهم الشفاء، فأولى ثم أولى أن الإنسان إذا أحس أن في قلبه مرضاً أن يهرول إلى علاجه قبل أن يحول الله بينه وبين هذا القلب بموته.
وكما أن البدن له أدوية يتعاطاها الإنسان فيشفى بإذن الله، فكذلك القلب أمراضه لها دواء، وعلى الإنسان أن يسارع بالتفتيش عن هذه العلاجات؛ ليطهر قلبه، ويرده إلى الصحة والعافية من جديد قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت، فلا يستطيع إصلاحه بعد الموت؛ فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلفوها لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه.
الوجه الثالث: أن المقصود التعبير بها عن غاية القرب من العبد، فقوله: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يعني: أن الله قريب منك جداً؛ لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما.
وانفصال أحدهما عن الآخر معناه: كأن القلب في جهة والإنسان نفسه في جهة، والله سبحانه وتعالى يحول بين الاثنين، فمن الأقرب إلى الإنسان؟ ومن أقرب إلى قلبه؟ هل القلب أقرب إلى المرء، أم أن الله أقرب إلى الإنسان من قلبه وأقرب إلى القلب من الإنسان؟ فهذا المعنى يفيده قوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) فيحول معناها: يقرب، وهذا المعنى نقل عن قتادة؛ حيث قال: إن قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] فيه تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنها صاحبها.
وقوله: ((وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) أي: فيجزيكم بأعمالكم.