وقد أعطى الله البشر العقول لأجل التفكر بالآيات التكوينية وآيات التوحيد في الآفاق وفي أنفسهم، وهؤلاء وقفوا على آيات لم يقف المسلمون على عشر معشارها؛ لأنهم أوغلوا في هذه العلوم التي تكشف أسرار مخلوقات الله سبحانه وتعالى، لكن حولوا العلم الذي هو خادم للتوحيد إلى علم جاحد، ولا يكون الإنسان عندهم متبعاً للمنهج العلمي إلا إذا أعرض تماماً عن ذكر الله سبحانه وتعالى، فالواحد إذا كان في كلية الطب أو الصيدلة أو العلوم وجاء في قضية من القضايا العلمية فاستدل بآية أو بحديث فإنه يكون قد خرج عن المنهج العلمي! فالدين عندهم لابد أن يكون معزولاً على جنب، وممكن أن يتركوه يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أو يتكلم في المقدمة أو الخاتمة بشيء فيه ذكر الله، لكن الذي يربط في صلب البحث بين هذه الآيات التي يجعلها الله حجة عليه وبين التوحيد هذا يكون قد خرج عن مجال العلم؛ لأن العلم لا يعترف إلا بما هو محسوس، أما الغيب فلا.
فهذه نظرتهم إلى علم الغيب، مع أن كل آية تصرخ بتوحيد الله سبحانه وتعالى.
ومن درس هذه العلوم وتأمل فيها بعلم وبصيرة يجد أن فيها آيات من آيات التوحيد، ونحن مطالبون بالتفكر فيها؛ لأنها تدل على توحيد الله عز وجل، وتدل على صفة الله عز وجل، كالخلق والقدرة والعلم وغير ذلك من صفات الكمال، ومع ذلك يعطلون هذا العلم عن دلالته على خالقه، والله عز وجل يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
فالشاهد: أن هؤلاء خاضوا في كل هذه العلوم، ولذلك يجعل الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه (عقيدة المؤمن) من الدلالة على وجود الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار الذين يقفون على هذه العلوم يكفرون بالله، يقول: لأنه لا يوجد تفسير لهذا أبداً غير أن هناك أقفالاً على قلوبهم، فكونهم يطلعون على هذه الآيات العجيبة الباهرة التي تدل على توحيد الله سبحانه وتعالى ثم لا ينقادون للتوحيد، هذا يدل على أن هناك قوة هي التي حالت بينهم وبين الهداية، كما قال الشاعر: فيا لك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة أليست وإن أصغت تجيب المناديا فلا يوجد تفسير للناس الذين يطلعون في الشرق والغرب من الكفار على آيات الله سبحانه وتعالى في كل العلوم بلا استثناء ثم لا يؤمنون إلا هذا؛ فحينما تتأمل في الذرة التي هي أصغر وحدة في المادة -كما يقولون- تجد أن نظامها هو نفس نظام المجرة، يعني: أن التركيب فيها هو نفس التركيب في المجرة، فمعنى ذلك: أن الصانع واحد سبحانه وتعالى، ولكن القوم لا يعقلون، فليس هناك تفسير لكفرهم سوى أن في قلوبهم أقفالاً هي التي تمنع قلوبهم من التدبر، فمن يسمع القرآن الكريم لا يتصور أن هذا الكلام يمكن أن يقوله بشر، فالإنسان العاقل الذي نور الله بصيرته لا يمكن أن يتخيل أن هذا القرآن بهذه الروعة يمكن أن يقوله بشر، ولكن كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].