أيضاً هنا تنبيه يتعلق بقول الله تبارك وتعالى: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، دون أن يضعوا هذه الأخبار على محك النظر والنقد والتمحيص، كالمبالغة في طول قوم عاد، لأن الله سبحانه وصف قوم عاد بقوله عز وجل: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً))، فترى بعض هؤلاء يحكون حكايات غريبة في ضخامة أجسام قوم عاد وطول قامتهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعاً.
فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي وهو وهم.
لكن عندنا دليل حسي على ذلك، وسنبينه إن شاء الله.
فقوله جل شأنه مخاطباً لقوم عاد: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)): لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها.
ونحن الآن في هذا العصر الذي نعيشه، نرى أن الإنسان القصير لا تنقص قامته عن مقدار معين، ومهما زاد الإنسان في عظم خلقته، فبعض الأجناس وبعض الشعوب مشهورون بضخامة جثثهم، لكن لها حد محدود، فلا نرى الرجل الآن طوله مثلاً خمسة أمتار، فإن هذا لا يقع، ولكن نرى حدوداً معينة للأطوال بحد أقصى لا يزيد عنها، فمهما زاد الإنسان في الجسم بسطة ومد الله له في قامته فإن له حداً لا يزيد عليه، فمثل هذه المبالغات مما لا يقبل، فمجرد قوله تعالى: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)) لا يسوغ لنا أن نقبل أي شيء يروى فيما يتعلق بضخامة أجسام هؤلاء القوم.
فالتفاوت بين الشعوب والأمم في أطوال الجسم وأحجامها من الأمور المعتادة، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتاً قريباً، ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا لا تتفاوت عنها تفاوتاً كبيراً: مساكن ثمود قوم صالح الباقية، وقوم ثمود مقاربين لقوم عاد، ومساكن قوم ثمود ما زالت حتى الآن ماثلة ومعروفة في ديار ثمود قوم صالح في الطريق الذاهب إلى تبوك في الجزيرة العربية، وهي كتل من الجبال منحوتة من الداخل، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، فالجبل وهو كتلة من الصخر ضخمة جداً، أو كتل متلاصقة، فكانت الجبال تفرغ من الداخل عن طريق النحت، وليس مجرد نحت الزخارف كما كان يفعل قدماء المصريين، فإنكم ترون في صور معابد أبي سنبل وغيرها، أنهم ينحتون التماثيل في الجبل، لكن هؤلاء كانوا يجوفون البيت من الداخل، فالسلالم والحجر والدواليب والأرفف، كلها أشياء لا تركب، وإنما هي منحوتة في الجبال! فهي مناظر تدل على عظم بأس هؤلاء القوم، وشدة تمكنهم في هذه الأشياء، لكن مع ذلك نلاحظ أن قاماتهم تدل عليها الحجرات وارتفاعاتها، وهذه الأشياء تدل على أن قامتهم كانت معتدلة، وليست بالطول البالغ إلى الحد الذي سنحكيه الآن.
ومثله في الكذب، بل أعرق منه في الوهم: ما ينقلونه في وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان، من أنه كان يحتجب بالسحاب، يعني: إذا وقف فإن جسمه يحجب بالسحاب، أي أن السحاب يصل إلى صدره إذا وقف!! يقف فيصل للسحاب ويشرب منه مباشرة!! ويتناول الحوت من أعماق البحار فيشويه بعين الشمس!! فهذا كله كلام لا يصدق، وهو من الغلو، والسبب في انتشار مثل هذا الكلام ما أولع به بعض المؤرخين من الحكايات الغريبة التي يأنس لها جهلة الناس وعوامهم دون نقد ودون تمحيص.
ثم إنه لو كان يريد أن يشوي السمكة فإن درجة الحرارة تكون على سطح الأرض أعلى منها على الجبال؛ ولذلك تجد دائماً أن الجليد يكون في قمم الجبال.
وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في مقدمة تاريخه، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين، هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسيمة، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى، فيتخيلون لأصحابها أجساماً تناسب ذلك.
والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، واتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره.
وأنكر أيضاً ما ينقلون من قصة جنة عاد، وأنها مدينة عظيمة، قصورها من ذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحاري عدن بناها شداد بن عاد، ولما تم بناءها أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسم هذه المدينة: إرم ذات العماد، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8].
ويزعمون أنها لم تزل باقية في بلاد اليمن، وإنما حجبت عن الأبصار، وحيث إن ذلك لم يرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه ولا نلتفت إليه.
صحيح أنه إذا لم يرد شيء في مثل هذا عن الصادق الأمين عليه السلام فلا نعول عليه، لكن لا يمنع أن يكتشف شيء من هذه الأشياء التي كانت محجوبة، ولا يمنع في مثل هذا المقام أن ننقل عن مجلة نيوزويك سبعة عشر فبراير، سنة اثنين وتسعين، صفحة ثمانية وثلاثين، نشرت خبراً غريباً جداً، يقول: إن القرآن يصف كيف أن الأرض ابتلعت مدينة مترفة أو باذخة فيها ترف جامد، ولكنها مدينة مهدمة أو مخربة، وهي مدينة الأبراج، وتدعى إرم، هذا نص عبارة مجلة النيوزويك، وهذا جزء كان من تحليل كبير يتكلمون فيه على اكتشاف، يقولون إنه عن طريق الأقمار الصناعية، استطاع الخبراء ومجموعة من الأخصائيين والمتمرسين في التكنولوجيا الحديثة، ومجموعة من علماء طبقات الأرض، أن يكتشفوا هذه المدينة القديمة في عمان، في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية، ورجل يدعى نيكولاس كلاس عمل فيلماً وثائقياً عن البعثة التي ذهبت إلى هناك، والتي درست هذه المنطقة، سواء عن طريق الأقمار الصناعية أو الطبقات الجيولوجية.
فيقول في النيوزويك: فالزيجرد -وكأنه يذكر طريقة تصوير ببعض الأجهزة الحديثة تكشف عما تحت الأرض- كان يرى حالياً مركز المدينة المرتطمة أو المحطمة، كما وصفها القرآن، هذه عبارتهم: كما وصفها القرآن؛ لأنها كانت بنيت فوق كذا وكذا وحقيقة المقالة كلها فيها أن القرآن أعطانا الحق عن هذه المدينة التي تدعى: عاد، وبقيت هناك علامات كثيرة حتى تأتي لهؤلاء، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أبقى آثار هذه المدينة لمن يتفكرون ويؤمنون بوحدانية الله سبحانه وتعالى.
وهذا يعني أنهم ربطوا بين هذا الاكتشاف الحديث وبين آيات القرآن الكريم التي تثبت وجود هذه المدينة، التي كانت بهذه الضخامة، التي حكاها الله سبحانه وتعالى في القرآن، واقتبسوا من القرآن الكريم تراجم لمعاني القرآن الكريم، يجمعون بينها وبين هذا البحث، وهي موجودة في النيوزويك مجازيم، سبعة عشر فبراير، سنة ألف وتسعمائة واثنين وتسعين، صفحة ثمانية وثلاثين.
يقول: وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصطنعة هم المؤرخون الذين يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل.