قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48].
(ونادى أصحاب الأعراف رجالاً) يعني: من عظماء أهل الضلالة (يعرفونهم بسيماهم) بعلاماتهم التي تدل على أعيانهم وعلى أشخاصهم، حتى وإن تغيرت صورهم.
(قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي: كثرتكم، والمقصود بها إما الجمع العددي، وهي الكثرة الكاثرة، أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات، فالإنسان إذا كان معه مال يدفع الآفات عن نفسه بالعلاج وبغيرها من الأسباب.
(وما كنتم تستكبرون) عن الحق أو على الخلق، والمعنى: ولم ينفعكم استكباركم على الحق أو على خلق الله عز وجل، وقرئ: (وما كنتم تستكثرون) من الكثرة، يعني تستكثرون من الأتباع الذين يستعان بهم أيضاً في دفع الملمات.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم، وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ، أي: ماذا نفعكم جمعكم؟ ثم نظروا إلى الجنة فرأوا فيها من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم ويحتقرونهم ويزدرونهم في الدنيا لفقرهم وضعفهم، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)).
أي: أهؤلاء الضعفاء من المؤمنين الذين أقسمتم وأنتم في الدنيا لا ينالهم الله برحمة، وهذا لأنكم قلتم: كما قد أعطانا الله المال والبنين في هذه الدنيا، فلابد أنه سيفضلنا في الآخرة؛ لأنه ما أعطانا ذلك إلا لكرامتنا عليه عز وجل، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، هكذا كان الكافر يمني نفسه ويغرها {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17] يعني: ليس الأمر كما تزعمون، فإن الدنيا يعطيها الله سبحانه وتعالى من يحب ومن لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا من أحب.
ويكفي من هوان الدنيا على الله سبحانه وتعالى أنه ترك أحب الخلق إليه وأفضلهم وأكرمهم عليه وهم الأنبياء والرسل يبتلون فيها ويؤذون ويقتلون ويجرحون ويضطهدون من قومهم، فدل على أن الدنيا ليست دار جزاء، لكن العبرة بالآخرة؛ فلذلك يقول أصحاب الأعراف: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ)) أي: بأن لا يرفع درجاتهم في الآخرة، فهاهم في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفي رياضها يحبرون.
((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ)) (لا خوف عليكم) أي: من العذاب الذي ينزل بالكفار، (ولا أنتم تحزنون) كحزن الكفار على فوات النعيم، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف بعضهم لبعض بعدما يبكتون أهل النار ويوبخونهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:47 - 48].
والاحتمال الثاني: هو أنه من كلام أهل الأعراف للمؤمنين الضعفاء، حيث إنهم قالوا للكفار: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ثم يلتفت أصحاب الأعراف إلى المؤمنين فيقولون لهم: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
والاحتمال الثالث: أنه من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال، أي: كأنه قيل لهم: انظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة، كيف نالوا هذه الرحمة؛ حيث قيل لهم من قبل الله تعالى: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
وعلى كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازاً للعلم به، والعلم به من السياق: فإما أن أصحاب الأعراف يتآمرون بينهم، ويدعون بعضهم بعضاً لدخول الجنة.
أو إما أن أهل الأعراف يقولون ذلك للمؤمنين.
وإما أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول ذلك للمؤمنين.