وهناك تفسيرات الصوفية لهذه الأشياء، لكن لا نريد أن نفصل في ذلك، ولا في ضلالات الباطنية وتأويلاتهم، وأنهم يستعملون القرآن في الناحية الرمزية التي توصلوا بها إلى أهوائهم ومآربهم.
وقد استنكر الباقلاني وغيره من العلماء التفاسير المتناقضة التي لم تحدد المراد من الفواتح تحديداً دقيقاً، والمنسوبة للصحابة والتابعين، مثل الإشارة بهذه الحروف إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفه من صفاته، أو اسم الله الأعظم، فلماذا لا تكون القاف مثلاً الحرف الأول من القاهر بدل من القدوس؟! ولماذا تدل النون على الناصر لا على النور؟! ويقولون: ص: الصمد، فلماذا لا تكون من الصادق؟! وهكذا، إلى غير ذلك من الأقوال المختلطة الفاسدة المتناقضة في التفاسير الإشارية والباطنية في الفواتح، وكذا التفاسير العصرية ذات الأرقام العددية، والتي لا يجوز الأخذ بها في تفسير كلام الله رب العالمين.
ولذا قال بعضهم: من ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام.
يقول الشوكاني: إن المروي عن الصحابة في الفواتح مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر، كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض ولا يجوز.
ثم هاهنا مانع غير هذا المانع، وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه، كسائر ما هو مأخوذ عنه.
أي أنه لو صح هذا الكلام عن الصحابة، فهو من الأقوال المختلفة، فلا يمكن أن يكونوا قد تلقوها عن النبي عليه السلام وهي متناقضة، إذ لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمهم ذلك لما اختلفوا ولا اتفقت كلمتهم، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لاسيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها.
يقول الشوكاني: والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأمة، ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا، ولا تهتدي إليها أفهامنا، فكم في الكون من أسرار تنقضي الدنيا ولا ندركها! وكم في التكاليف والعبادات من أسرار لا يملك العبد أمامها إلا أن يمتثل أمر ربه! ولم يكتشف العلم إلا قطرة من بحر خلق الله الذي لا يعرف مداه سواه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27].
ليست الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية سوى حروف قرآنية موحىً بها من عند الله عز وجل، ويجب ألا نقول فيها شيئاً من عند أنفسنا، أو ندخل في تفسيرها بظن لا يستند إلى دليل صحيح من كتاب أو سنة، فلا نرمز بها إلى أعداد معينة كأصحاب الحاسب الآلي، أو نشير بها إلى معاني الباطنية الفاسدة كأقوال بعض الصوفية، إننا لسنا أمام تاريخ حادثة حربية، أو تقليد نظرية فلكية، أو مناقشة قضية مدنية، ليتذكر الجميع أننا نقف أمام كتاب رب العالمين الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]؛ ولذا يجب الوقف في هذه الفواتح على الظاهر منها، وهو أنها حروف من حروف المعجم، تنطق بأسمائها ويمد كل حرف منها مداً مثقلاً إذا كان هجاؤه ثلاثة أحرف: أوسطها مد وآخرها حرف ساكن مدغم فيما بعده، ويمد كل حرف منها مداً مخففاً إذا كان هجاؤه ثلاثة أحرف: أوسطها مد وآخرها ساكن غير مدغم.
فليست لهذه الحروف المقطعة معان غير مسمياتها حتى يتكون منها الكلام.
أما من حيث القطع في معانيها الحقيقة في أنفسها وبيان المراد منها في أوائل السور، فلم يرد في ذلك شيء صحيح من كتاب أو سنة؛ لذا نقول: الله أعلم بمراده، ومن الكف عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه إذا لم يرتبط بذلك حكم أو تكليف، فيكفي تدبر هذه الفواتح على الأسلوب الذي جاءت به في المصحف الشريف.
نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بالكلام على الفواتح، وإنما أطلت النفس فيه، باعتبار أن هذا سنحتاجه فيما بعد إن شاء الله، فسنحيل على هذا البحث الذي ذكرناه هنا.