وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده، بإقدار الله، جل وعلا، لهم على ذلك. فللملك لمّة من الإنسان، كما أن للشيطان لمة. ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره، بما ورد في الآية بعدها.
والوجه الأول أدق وأقرب، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ، ما لا يخفى حسنه. وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولما تقدم أولا. كما أن إيثار (نحن) على (أنا) لا يحسم ما نفاه، لاحتمال إرادة التعظيم ب (نحن) كما هو شائع، فلا يتم له ذلك. نعم! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيما للملك، لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة. وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد، من قال في تفسير الآية كالقاشاني- ما مثاله: وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه، لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ. ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود، من حيث هو وجود، ولولاه لكان عدما صرفا ولا شيئا محضا. انتهى كلام القاشاني. ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف، لأن لهؤلاء اصطلاحا معروفا، وهم أول من يتبرأ من الحلول والاتحاد، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما، في كتاب (دلائل التوحيد) الذي طبع بحمد الله من أمد قريب. فارجع إليه، واستغفر لمصنفه.
أقول: رأيت ابن كثير بعد، مسبوقا بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية، فقد أوضح ذلك رحمه الله في كتابه (شرح حديث النزول) : ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلا، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام، كقوله تعالى:
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] .
فهو سبحانه قريب ممن دعاه. وكذلك ما في الصحيحين (?) عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: (أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، وإنما تدعون سميعا قريبا. إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) . فقال: إن الذي تدعونه