لكن هذا الذي أُوتيَه داودُ عَلَيهَ السَّلام فوقَ ذلك، فكانت الجِبال تُرجِّعُ معه؛ وذلك لحُسْن صَوْتِه، ونَغَماته؛ حتى إنَّ الجبال تُرجِّع معه بأَمْر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
{وَالطَّيْرَ} الطَّير يَقول: [بِالنَّصْبِ؛ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الجبَالِ]، لأنَّ (يَا جِبَالُ) هذه مُنادَى مَبنِيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ نَصب، وإنما بُنِيَ على الضَّمِّ وهو نَكِرة؛ لأنه مَقصود، والنَّكرة المَقصودة بمَعنَى العَلَم، فلهذا بُنِيَت على الضَّمِّ.
{وَالطَّيْرَ} لو عُطِفَت على اللَّفْظ {يَاجِبَالُ} لكانت مَرفوعةَ مَبنِيَّةَ على الضَّمِّ؛ لكنها عُطِفت على مَحَلِّ الجِبال وهو النَّصْب، يَعنِي: وكذلك أَمَرَ الله تعالى الطَّيْر بأن تُرجِّع معه، فكانت الطيور في جَوِّ السماء تَقِف عند سَماع قِراءة داودَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فتُرجِّع معه.
وأنت إذا تَصوَّرْتَ هذا الأمرَ وأنَّ رجُلًا يَقرَأ الزبورَ بتِلْك القِراءةِ والنَّغَماتِ الجميلةِ ثُم الطُّيورُ من فوقُ تُسبِّح والجِبال؛ لا شكَّ أنه مَشهَد عَظيم ورَهيب، فكل شيء يَقرَأ بقِراءة هذا الرجُلِ بأَمْر الله! .
وقوله رَحِمَهُ اللَّهُ: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [فَكَانَ في يَدِهِ كَالْعَجِينِ] أي: جَعَلْناه لَيِّنًا بيَدِه حتى إنه كالعَجين في يَدِ أَحَدِنا، وهل المُرادُ أن الله تعالى أَلانَه له بالوسائِل التي تُلَيِّنُ الحديدَ سُخِّرت له وهُيِّئَت له، أو أن الله تعالى أَلانَ له الحديد بغَيْر السبب المَعلوم؟
الجوابُ: يَرَى بعض الناس أنه الأَوَّل؛ وأنَّ المُراد بقَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أي: يَسَّرْنا له الأسباب التي تُلين ذلك الحديدَ؛ لأنَّ تَيسير الأسباب لا شَكَّ أنَّه من نِعْمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أرَأَيْتَ لو أنَّك تُريد أن تُعكِف سِيخًا من الحديد وعندك نارٌ ضَعيفة فإنك تَتعَبُ في ذلك، لكن لو كان عِندك نارٌ قوِيَّة جِدًّا