وقوله تعالى: {التَّنَاوُشُ} بمَعنَى: تَناوُل الشيء من بُعْد، وفي اللغة العامِّية يَقول: تَناوَشْت الشيءَ. يَعنِي: تَناوَلْته من بُعْد، وأيضًا ما تَمكَّنت منه التَّمكُّن التامَّ، وكذلك إذا صار بينهم ضَرب يَقول: تَناوَش مُناوَشةً. أي: من بعيد من دون تَمكُّن.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ هؤلاءِ المُكذِّبين إذا عايَنوا العذابَ آمَنوا؛ لقوله - عز وجل -: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ}.
ويُؤيِّد ذلك آيات كثيرةٌ، مثل قوله - سبحانه وتعالى -: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84، 85].
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن الإيمان بعد مُعايَنة العذاب لا يُفيد؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}، وإنما كان غيرَ مُفيد؛ لأنَّ الإيمان بالمُشاهد لا قِيمةَ له، فالشيء المُشاهد لا بُدَّ أن يُؤمِن به كلُّ إنسان، لكن المِحنة والابتِلاء إنما تكون في الإيمان بالغَيْب؛ قال الله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3].
أمَّا إنسان تَقول له مثلًا: هذه حَقيبةُ، وهذه كَرَّاسة، وهذا مُكبِّر صَوْتٍ، وهذا مُسجِّل. وهي أمامَه فلا يُمكِن أن يُنكِرها، فإن أَنكَر فهو مُكابِر، لكن شيء غائِب تُخبِره به ربَّما يُنكِره، وهؤلاء إذا آمَنوا بعد مُشاهدة العذاب فإن إيمانهم لا يَنفَعهم، وإن إيمانهم حينئذٍ إيمانُ مُشاهدة، لا إيمانٌ بالغَيْب، والإيمان بالمُشاهدة ليس فيه مَنح ولا ثَناءٌ، ولا يَستَحِقُّ صاحِبه الجزاء.