ولهذا قال تعالى: {كَلَّا} [مريم: 79]، كلَّا: أي أنَّه لم يَطَّلِعِ الغَيْبَ، ولم يَتَّخِذ عند الرحمنِ تعالى {عَهْداً}، عهدًا: الشيءُ بين هذا وهذا حتَّى يَتبيَّن أنَّه لا بُدَّ أن يَكون أحدَ الأَمْرين.
مِثال ذلك: نحنُ أو أَنْتُم الآنَ أمامَنا طريقان هُدًى أو ضَلال؛ إمَّا نحن على الهُدى وأنتم على الضَّلال، أو نحن على الضَّلال وأَنتُم على الهُدى، كذلك الآيةُ التي في سُورة مريمَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- واضِحة جِدًّا {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 77 - 78] وجهُ ذلك: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قال: هل هذا اطَّلَع الغَيْبَ وعَلِمَ أنَّه سيُؤتَى مالًا وولَدًا أمِ اتَّخَذ عند الرحمن سبحانه عَهْدًا؛ أي: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَخْبَره وعَهِد له بأنه سيُؤتيه مالًا وولَدًا؛ لأنَّ دَعْواهُ هذه إمَّا أن تكون كذِبًا أو عنده عِلْم من الغَيْب أو عَهْد من الله تعالى، قال الله تعالى في هذا: {كَلَّا} يَعني: ولا هذا ولا هذا، إذا انتَفَى هذا وهذا ماذا يَبقَى له؟ يَبقَى الكَذِب أنَّها دَعوَى كاذِبة لا حقيقةَ لها؛ ولهذا قال تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 79 - 80].
ومنه أيضاً: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، والجوابُ: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، والجوابُ: أنهم قالوا على الله تعالى ما لا يَعلَمون.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: التَّلطُّف مع الخَصْم والتَّنزُّل معه للوصول إلى الإقرار بالحَقِّ، من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فإنَّ هذا التَّنزُّلَ في غاية التَّنزُّل مع الخَصْم والتَّلطُّف معه؛ ليُقِرَّ بالحَقِّ، وانظُرْ إلى نَحوٍ من ذلك: