أن يقولَ: ولو جِئْتَنِي بشيْءٍ مُبِينٍ إنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ، ولكن القلوب بيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فأَلان اللهُ قلبَ هَذَا الرَّجُلِ المتكبِّر الجبَّار لِمُوسَى حين قَالَ: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}، وهذا اللِّين قد يكون له سبب حِسِّيٌّ، فهو لِئَلَّا يَنْقَطِعَ أمامَ المَلَأِ الَّذين عنده؛ لِأَنَّ مُوسَى إذا عرضَ عليهم خطَّة الرُّشْد ثم تَعَسّف، وقال: ولو جِئْتَنِي بهذا، فربَّما حينئذٍ يَظْهَرُ أمامَ مَلَئِهِ أَنَّهُ مُعانِدٌ وأنه منقطِع، فقال: {فَأْتِ بِهِ}.
ثم إنه أيضًا قد يكونُ ممَّا حَمَلَه عَلَى ذلك أَنَّهُ أرادَ أن يأتيَ بِهِ ليكونَ إبطالُه أو دَعْوَى بُطْلانِهِ عَلَى يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ ربَّما يأتي بِهِ مُوسَى فِي مكانٍ آخرَ فيغترّ بِهِ النَّاس - على زَعْمِه - فأراد أن يأتيَ بِهِ أمامَه؛ لِيَتَمَكَّنَ مِن دَعْوَى بُطلانِهِ.
نقول: ووجهُ التليين - أو أن الله ألانَه له - أَنَّهُ ما قَالَ: لا تأتِ بشيْءٍ وسَأَسْجُنك ولو لم تأتِ؛ فقد عَرَضَ عليه أَنَّهُ يأتِي بشيْءٍ مُحْتَمَلٌ أنْ يأتيَ به، ولكن فِرْعَوْن لَانَ بعضَ الشَّيْءِ للأسْبابِ الَّتِي ذكرناها:
أولًا: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ألانَه، والله عَلَى كل شيْء قديرٌ.
ثانيًا: الأسْباب الحِسّيّة لأجلِ ألّا يُقال: إن حُجَّته انقطعتْ، وإنّ الرَّجُل عرَض عليه خطّة رُشْد فأَبَاها.
ثالثًا: لأجلِ أنْ يكونَ إبطالُ ما يأتي بِهِ مُوسَى عَلَى يدِهِ حَتَّى يُبينَ، وأنه أراد أن يتحدّاه، وإنْ كَانَ هَذَا ما يَمْنَع أن يقول: لا تأتِ به؛ لِأَنَّهُ هُوَ قادرٌ عَلَى أن يقولَ: لا تأتِ بِهِ بدون أن يتحدّاه؛ لِأَنَّ تحديَه له فيه احتمالٌ أنْ يأتيَ به، وحينئذ تَنْقَطِع حُجَّة فِرْعَوْن.