كأنَّهم آمَنُوا إيمانًا به، ثم آمنوا له فانقادوا له.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} انظر التمويه، هَذَا غريبٌ، فهذا فِي الحَقِيقَةِ مظهرُ ضعفٍ منه، كيف يكون كَبيرَهم الَّذِي عَلَّمَهُمُ السِّحرَ وهم قد حُشِروا من المدائنِ وليسوا مع مُوسَى فِي مدينتِه، وكيف يُقال: إنه علَّمَهُم، بل إنهم فِي مدائنَ متباعدةٍ، وكيف يمكن أن يُقال: إنه كبيرهم الَّذِي علّمهم السِّحرَ وهم قد وضعوا حبالَهم وعِصِيَّهم لِيَقْضُوا عليه؟ ! فإن مَن عَلّمهم السِّحرَ لا بدَّ أن يخافوا منه، وكيف يُقال: إنه علّمهم السِّحرَ وهم قد استعزُّوا بعِزَّة فِرْعَوْنَ {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}، وهم يعلمون أن فِرْعَوْن خَصمٌ لِمُوسَى، لكن هَذَا من باب التمويهِ عَلَى قومه، كما قال الله فيهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، يعني: عقولهم بالنِّسبة لفِرْعَوْن لا شيْء، فهم خَفِيفُو العقولِ والتفكيرِ، ولا يعرفون شيئًا سوى فِرْعوْن، أَنَّهُ إِلَهُهم!
قال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وقلنا: إن هَذَا باطلٌ من الأوجهِ الَّتِي ذَكَرْنا، وإنه لا يُمْكِن، لكن هَذَا مَظْهَر ضعفٍ من فِرْعَوْنَ بلا شكّ، يعني: كأَنَّه يقول الآن: أنتمُ اجْتَمَعْتُمْ عليّ، وتحاشدتُمْ عليّ، أنتم ومُعَلِّمُكُمْ، ثم لجأَ إِلَى التهديدِ كعادته قَالَ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [{فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما ينالكم مني {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}].
قوله: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هَذَا تهديدٌ بأمرٍ مُبْهَمٍ، والإجمالُ ثم التفصيلُ من فوائدِهِ تشوّقُ المخاطَب إِلَى تَبَيُّنِ هَذَا المُجْمَل، وإذا كَانَ وَعيدًا فَإِنَّهُ يَتَشَوَّقُ ذلك لكنه يكون خائفًا جِدًّا؛ لِأَنَّهُ لا يَدْرِي ما هَذَا المبهَمُ الَّذِي وُعِدَ به، بَيَّنَهُ بقوله: {لَأُقَطعَنَّ} واللامُ واقعةٌ فِي جَوابِ القَسَمِ، بدليل أَنَّهُ مؤكّد {لَأُقَطِّعَنَّ}.