لأنَّهُم يرون ذلك عَيْنَ اليقين، وعينُ اليقينِ أشدُّ من عِلْمِ اليقين؛ ولهذا قال إبراهيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فإحياءُ الموتى عند إبراهيم قبل أن يشاهِدَه بِعَيْنِه من باب عِلْمِ اليَقينِ، فإذا شاهدهم صار من بابِ عَيْن اليقينِ.
وقد ذكر العلماءُ أنَّ لليقينِ ثلاثَ درجاتٍ: (علمًا) و (عينًا) و (حقًّا)، وكل ذلك مذكور في القرآنِ؛ قال عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فهذا عَيْنٌ وعِلْمٌ في سورة واحدة، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} هذا حقُّ اليقين، هذه مراتِبُ اليقينِ الثَّلاثُ.
والفرق بينها: أنَّنا نحن نعلم عِلْمَ اليَقينِ أنَّ في الجَنَّة نَخْلًا ورمَّانًا وفاكِهَةً، فإذا رأيناها بأعْيُنِنا - ونسأل الله أن يَجْعَلَنا وإيَّاكُم نراها - إذا رأيناها بأعْيُنِنا صار ذلك عَيْنَ اليقينِ، فإذا أكلناها صار حَقَّ اليقينِ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: لماذا لا يكون عينُ اليقينِ حقَّ اليقينِ؟
فَنَقُول: الآن هناك عَناقيدُ عِنَبٍ من البلاستيكِ الذي يراها عينَ اليقينِ يَحْسَبُها عنبًا، ولو تُعْطِي شَخْصًا بذْرَةً صغيرةً منها لأخذها وأَكَلَها؛ نحو قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} لكِنْ عندما نأكُلُ تلك البلاستيك تتبيَّنُ الحقيقةُ.
فـ (حق اليقينِ) أعلى من (عين اليقين)، لكن ما لا يُدْرَكُ إلا بالرُّؤْيَةِ فتكون رُؤْيَتُه (حقَّ اليقين). وكلُّ هذا تقريرٌ على قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} لأنَّ كَوْنَهم يمشونَ في مساكنهم معناه: أنَّهُم يُدْرِكونَ ذلك (عينَ اليَقينِ) فيشاهِدُون بأَعْيُنِهم، وهو أبلَغُ من الخَبَر.