وكان من أجلّ ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل، أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئًا إلا ما باينها دون ما لاصقها، فإنها لا ترى ما لاصقها. قالوا: فما كان للأبصار مباينًا مما عاينته، فإن بينه وبينها فضاءً وفرجةً. قالوا: فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الأشخاص اليوم، فقد وجب أن يكون الصانع محدودًا. قالوا: ومن وصفه بذلك، فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان.

قالوا: وأخرى، أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان، كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات، ومن شأن المتنسِّم أن يدرك الأعراف. (?) قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزًا أن يُقْضَى للسمع بغير إدراك الأصوات، وللمتنسِّم إلا بإدراك الأعراف، فسد أن يكون جائزًا القضاءُ للبصر إلا بإدراك الألوان. (?) قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفًا بأنه ذو لون، صح أنه غير جائز أن يكون موصوفًا بأنه مرئيٌّ.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا، وأما في الآخرة فإنها تدركه. وقال أهل هذه المقالة:"الإدراك"، في هذا الموضع، الرؤية.

واعتلّ أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا:"الإدراك"، وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية، فإن الرؤية من أحد معانيه. وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصرُه شيئًا فيراه، وهو لما أبصره وعاينه غير مدرك، وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية. قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له، دون ما لم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015