وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبلُ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره. (?)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دخول"من"، في قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلالِ، و"من" إنما تدخل في الكلام مبعِّضَة لما دخلت فيه؟
قيل: قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية.
فقال بعض نحويي البصرة: دخلت"من" في هذا الموضع لغير معنًى، كما تدخله العرب في قولهم:"كان من مطر" و"كان من حديث". قال: ومن ذلك قوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [سورة البقرة: 271] ، وقوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) [سورة النور: 43] ، قال: وهو فيما فسِّر: وينزل من السماء جبالا فيها برد. قال: وقال بعضهم: و"ينزل من السماء من جبال فيها من برد"، أي: من السماء من برد، بجعل"الجبال من برد" في السماء، وبجعل الإنزال منها. (?)
* * *
وكان غيره من أهل العربية ينكر ذلك ويقول: لم تدخل"من" إلا لمعنى مفهوم، لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به. وذلك أنها دالة على التبعيض. وكان يقول: معنى قولهم"قد كان من مطر" و"كان من حديث"؛ هل كان من مَطَرِ مَطَرَ عندكم؟ وهل من حديث حُدِّث عندكم؟ (?) ويقول: معنى: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، أي: ويكفر عنكم من سيِّئاتكم ما يشاء ويريد = وفي قوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) ، فيجيز