تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) : قد وَالله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفُرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السُّنة إلى البدعة (?) .

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ؟ وهل التجارة مما تَرْبَح أو تُوكس، فيقال: رَبِحت أو وُضِعَت (?) ؟

قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننتَ. وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشترَوْا، ولا فيما شرَوْا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عَرَبًا فسَلَك في خطابه إياهم وبيانه لهم، مَسلكَ خطاب بعضهم بعضًا، وبيانهم المستعمل بينهم (?) . فلما كان فصيحًا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيُك، ونام ليلُك، وخسِر بيعُك، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام، فقال: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة، كما النومُ في الليل. فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك، عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم، وإنْ كان ذلك معناه، كما قال الشاعر:

وشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ ... كَهُلْكِ الْفَتَاةِ أَسْلَمَ الْحَيَّ حَاضِرُهُ (?)

يعني بذلك: وشر المنايا منيَّة ميت وَسط أهله، فاكتفى بفهم سامع قِيلِه مرادَه من ذلك، عن إظهار ما ترك إظهارَه، وكما قال رؤبة بن العَجَّاج:

حَارِثُ! قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي ... فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي (?)

فوَصف بالنوم الليل، ومعناه أنه هو الذي نام، وكما قال جرير بن الخَطَفَى:

وَأَعْوَرَ من نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ ... فَأَعْمَى، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ (?)

فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار، ومرادُه وصفَ النبهانيّ بذلك.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }

يعني بقوله جل ثناؤه (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) : ما كانوا رُشداءَ في اختيارهم الضلالةَ على الهدى، واستبدالهم الكفرَ بالإيمان، واشترائهم النفاقَ بالتصديق والإقرار.

* * *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015