ثم نزل في المنهزمين قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ أي الذين انهزموا منكم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني جمع المسلمين، وجمع المشركين إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ قال القتبي:
استزلهم أي طلب زلتهم، كما يقال: استعجلت فلاناً أي طلبت عجلته واستعملته أي طلبت عمله. ويقال: زَيَّنَ لهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا يعني: الذي أصابهم كان بأعمالهم كما قال في آية أخرى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] . وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ حيث لم يستأصلهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم حَلِيمٌ إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة.
قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا السراج، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو بكر عن غيلان بن جرير، أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال له عبد الرحمن: أتسبُّني وقد شهدت بدراً ولم تشهدها؟ وبايعتُ تحت الشجرة ولم تُبَايع؟ وقد كنت توليت فيمن تولى يوم الجمع- أي يوم أحد- فردّ عليه عثمان وقال: أما قولك إنك شهدت بدراً ولم أشهدها، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلا أن ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت مريضة فكنت معها أُمرِّضها، وضرب لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسهم في سهام المسلمين. وأما بيعة الشجرة، فبعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم رداً على المشركين بمكة فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمينه على شماله قال: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» فيمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليّ خير من يميني وشمالي. وأما يوم الجمع فقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ فكنت فيمن عفى الله عنهم. فخصم عثمان عبد الرحمن بن عوف.
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني منافقي أهل الكتاب وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ من المنافقين: إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ يعني إذا ساروا في الأرض تجاراً مسافرين، فماتوا في سفرهم أَوْ كانُوا غُزًّى يعني: خرجوا في الغزو فقتلوا. قال القتبي:
غزّاً جمع غاز، مثل صائم وصُوَّم، ونائم ونوم لَوْ كانُوا عِنْدَنا بالمدينة مَا ماتُوا في سفرهم وَما قُتِلُوا في الغزو لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ الظن حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ويقال: جعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم لأنه ظهر نفاقهم. وقال الضحاك: ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين، لأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في أشجار الجنان حيث شاءت. وأرواح قتلى المنافقين في حواصل طير سُودٍ تسرح في الجحيم.