تعالى: اخْسَؤُا فِيها، يعني: اصغروا فيها واسكتوا، أي: كونوا صاغرين، وَلا تُكَلِّمُونِ، أي ولا تكلموني بعد ذلك.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو حفص، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «إن أهل النار ليدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يرد عليهم: إنكم ماكثون. ثم يدعون ربهم: ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا فإنا ظالمون، فلا يجيبهم مقدار ما كانت الدنيا مرتين، ثم يجيبهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، فو الله ما نبس القوم بعد هذا بكلمة إلا الزفير والشهيق» (?) .
وروي عن ابن عباس أنه قال: «لما قال الله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، «فانطبقت أفواههم وانكسرت ألسنتهم، فمن الأجواف يعوون كعواء الكلب» ويقال: اخْسَؤُا أي تباعدوا تباعد سخط. يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته ليتباعد.
ثم بيّن لهم السبب الذي استحقوا تلك العقوبة به، فقال: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ وهم المؤمنون: رَبَّنا آمَنَّا، أي صَدَّقْنَا، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
قوله عز وجل: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا، يعني: هزواً، حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي يعني:
أنساكم الهزء بهم العمل بطاعتي، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ في الدنيا. قرأ عاصم، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو سِخْرِيًّا بكسر السين، وكذلك في سورة ص، وكانوا يقرءون في الزخرف بالرفع، قالوا: لأن في هذين الموضعين من الاستهزاء. وهناك في الزخرف من السخرة والعبودية، فما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وما كان من التسخير فهو بالضم. وقرأ حمزة والكسائي ونافع سِخْرِيّاً كل ذلك بالضم. وقال أبو عبيد: هكذا نقرأ، لأنهن يرجعن إلى معنى واحد، وهما لغتان سِخْرِيٌّ وسُخْرِيّ وذكر عن الخليل وعن سيبويه: أن كلاهما واحد.
قوله عز وجل: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا، يعني: جعلت جزاءهم الجنة وهم المؤمنون بما صبروا، يعني: بصبرهم على الأذى وعلى أمر الله تعالى. أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ، يعني: الناجين. قرأ حمزة والكسائي أَنَّهُمْ بكسر الألف على معنى الابتداء، والمعنى: إني جزيتهم.
ثم أخبر فقال: أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ وقال أبو عبيد، وقرأ الباقون أَنَّهُمْ بالنصب أَنِّي جزيتهم لأنهم هم الفائزون. وقال أبو عبيد: الكسر أحب إليَّ على ابتداء المدح من الله تعالى.