وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم. فقالوا يا رسول الله: إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخرجت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت، فهاجروا، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة «1» فنهى الله تعالى عن موالاتهم.
وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله: حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه» «2» . وقرئ: عشيرتكم، وعشيراتكم.
وقرأ الحسن: وعشائركم فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وعيد. عن ابن عباس: هو فتح مكة. وعن الحسن: هم عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)