به؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أن مدرة القوم ومتقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً، فكأنه قيل: لا يغرنكم. والثاني: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه، كقوله: (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) وهذا في النهى نظير قوله في الأمر (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) وقد جعل النهى في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب، لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به، فمنع السبب ليمتنع المسبب. وقرئ: لا يغرنك بالنون الخفيفة مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدإ محذوف، أى ذلك متاع قليل وهو التقلب في البلاد، أراد قلته في جنب ما فإنهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعدّ اللَّه للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجْعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع «1» » وَبِئْسَ الْمِهادُ وساء ما مهدوا لأنفسهم.
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
النزل والنزل: ما يقام للنازل. وقال أبو الشعراء الضبي:
وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ بِاْلْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرهِفَاتِ لَهُ نُزْلَا «2»
وانتصابه إمّا على الحال من جنات لتخصصها بالوصف والعامل اللام: ويجوز أن يكون بمعنى مصدر «3» موّكد، كأنه قيل: زرقاء، أو عطاء مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ من الكثير الدائم خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش (نُزُلًا) بالسكون. وقرأ يزيد بن القعقاع: لكنّ الذين اتقوا، بالتشديد.
[سورة آل عمران (?) : آية 199]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)