وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ! فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَكَانَتِ الْجِنُّ تُخْبِرُ الْإِنْسَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ أَشْيَاءَ وَيَعْلَمُونَ مَا فِي غَدٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ فَمَاتَ قَائِمًا وَكَانَ لِلْمِحْرَابِ كِوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَتِ الْجِنُّ يَعْمَلُونَ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَلَا يُنْكِرُونَ احْتِبَاسَهُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى النَّاسِ لِطُولِ صَلَاتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَكَثُوا يَدْأَبُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَوْلًا كَامِلًا حَتَّى أَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَصَا سُلَيْمَانَ، فَخَرَّ مَيِّتًا فَعَلِمُوا بِمَوْتِهِ. (?)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَشَكَرَتِ الْجِنُّ الْأَرَضَةَ فَهُمْ يَأْتُونَهَا بِالْمَاءِ وَالطِّينِ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ، (?) فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} وَهِيَ الْأَرَضَةُ {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} يَعْنِي: عَصَاهُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو: "مِنْسَاتَهُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَيُسَكِّنُ ابْنُ عَامِرٍ الْهَمْزَ، وَأَصْلُهَا مِنْ: نَسَأْتُ الْغَنَمَ، أَيْ: زَجَرْتُهَا وَسُقْتُهَا، وَمِنْهُ: نَسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ، أَيْ: أَخَّرَهُ.

{فَلَمَّا خَرَّ} أَيْ: سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} أَيْ: عَلِمَتِ الْجِنُّ وَأَيْقَنَتْ، {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} أَيْ: فِي التَّعَبِ وَالشَّقَاءِ مُسَخَّرِينَ لِسُلَيْمَانَ وَهُوَ مَيِّتٌ يَظُنُّونَهُ حَيًّا، أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَ الْجِنَّ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ. وَذَكَرَ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّ مَعْنَى "تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ"، أَيْ: ظَهَرَتْ وَانْكَشَفَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسِ، أَيْ: ظَهَرَ أَمْرُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ شَبَّهُوا عَلَى الْإِنْسِ ذَلِكَ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِنُّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَيْ: عَلِمَتِ الْإِنْسُ وَأَيْقَنَتْ ذَلِكَ.

وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: "تُبَيِّنَتْ" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ [أَيْ: أَعْلَمَتِ الْإِنْسُ الْجِنَّ، ذُكِرَ بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، "وَتُبَيِّنَ" لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ] . (?)

وَذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمَلَكَ يَوْمَ مَلَكَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَابْتَدَأَ فِي بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَرْبَعِ سِنِينَ مَضَيْنَ مِنْ مُلْكِهِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015