وَ"مَنْ حَوْلَهَا" هُوَ مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا. وَقِيلَ: "مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا" جَمِيعًا الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: "مَنْ فِي النَّارِ" مُوسَى وَ"مَنْ حَوْلَهَا" الْمَلَائِكَةُ، وَمُوسَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّارِ كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ فُلَانٌ الْمَنْزِلَ، إِذَا قَرُبَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ بَعْدُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ بُورِكَتِ النَّارُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيًّا يَقْرَأُ: أَنْ بُورِكَتِ النَّارُ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَ"مَنْ" قَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى مَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ" (النُّورِ-45) ، وَ"مَا" قَدْ يَكُونُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ "جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ" (ص-11) ، وَمَعْنَاهُ: بُورِكَ فِي النَّارِ وَفِيمَنْ حَوْلَهَا، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَسَمَّى النَّارَ مُبَارَكَةً كَمَا سَمَّى الْبُقْعَةَ مُبَارَكَةً فَقَالَ: "فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} يَعْنِي قُدِّسَ مَنْ فِي النَّارِ، وَهُوَ اللَّهُ، عَنَى بِهِ نَفْسَهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ نَادَى مُوسَى مِنْهَا وَأَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنْ جِهَتِهَا (?) كَمَا رُوِيَ: أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: "جَاءَ اللَّهُ مِنْ سَيْنَاءَ، وَأَشْرَفَ مِنْ سَاعِينَ، وَاسْتَعْلَى مِنْ جِبَالِ فَارَانَ" (?) فَمَجِيئُهُ مِنْ سَيْنَاءَ: بَعْثَةُ مُوسَى مِنْهَا، وَمِنْ سَاعِينَ بَعْثَةُ الْمَسِيحِ مِنْهَا، وَمِنْ جِبَالِ فَارَانَ بَعْثَةُ الْمُصْطَفَى مِنْهَا، وَفَارَانُ مَكَّةُ (?) . قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ نُورُهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ النَّارُ بِعَيْنِهَا، وَالنَّارُ إِحْدَى حُجُبِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "حِجَابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مَنْ خَلْقِهِ" (?) ثُمَّ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ وَهُوَ الْمُنَزَّهُ مَنْ كُلِّ سُوءٍ وَعَيْبٍ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) }
ثُمَّ تَعَرَّفَ إِلَى مُوسَى بِصِفَاتِهِ، فَقَالَ: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ {إِنَّهُ} عِمَادٌ، وَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ، وَقِيلَ: هِيَ