أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، يَعْنِي: أَفَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْقُرْآنِ، وَالتَّدَبُّرُ هُوَ النَّظَرُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَدُبُرُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً، أَيْ تَفَاوُتًا وَتَنَاقُضًا كَثِيرًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: لَوَجَدُوا فِيهِ أَيْ: فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، أَفَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ فَيَعْرِفُوا بِعَدَمِ [1] التَّنَاقُضِ فِيهِ وَصِدْقِ مَا يخبر [به] [2] أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَخْلُو عَنْ تَنَاقُضٍ وَاخْتِلَافٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ، وَذَلِكَ [3] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ السَّرَايَا فَإِذَا غَلَبُوا أَوْ غُلِبُوا بَادَرَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَخْبِرُونَ عَنْ حالهم، فيفشونه [4] وَيُحَدِّثُونَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُضْعِفُونَ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذا جاءَهُمْ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَيِ: الْفَتْحِ وَالْغَنِيمَةِ أَوِ الخوف والقتل وَالْهَزِيمَةِ أَذاعُوا بِهِ أَشَاعُوهُ وَأَفْشَوْهُ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ إلى رأيه ولم يُحَدِّثُوا بِهِ حَتَّى يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ، وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، أَيْ: ذَوِي الرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، أَيْ: يَسْتَخْرِجُونَهُ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ، أَيْ: عَلِمُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَمَ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْشَى، وَالِاسْتِنْبَاطُ: الِاسْتِخْرَاجُ، يُقَالُ: اسْتَنْبَطَ الْمَاءَ إِذَا اسْتَخْرَجَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَسْتَنْبِطُونَهُ أَيْ: يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَتْبَعُونَهُ، يُرِيدُ الَّذِينَ سَمِعُوا تِلْكَ الْأَخْبَارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ولو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى ذَوِي الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، أَيْ: يُحِبُّونَ أَنْ يَعْلَمُوهُ عَلَى حقيقته كما هو، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ، كُلُّكُمْ، إِلَّا قَلِيلًا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَثْنَى الْقَلِيلَ وَلَوْلَا فَضْلُهُ لَاتَّبَعَ الْكُلُّ الشَّيْطَانَ؟ قِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَذَاعُوا بِهِ إِلَّا قليلا لم يفشه، وعنى بِالْقَلِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ: لِأَنَّ عِلْمَ السِّرِّ إِذَا ظَهَرَ عَلِمَهُ الْمُسْتَنْبَطُ وَغَيْرُهُ، وَالْإِذَاعَةُ قَدْ تَكُونُ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا، ثم قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ كَلَامٌ تَامٌّ، وَقِيلَ: فَضْلُ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَرَحِمْتُهُ الْقُرْآنُ، يَقُولُ لَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قليلا فهم قَوْمٌ اهْتَدَوْا قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ، مِثْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَجَمَاعَةٍ سِوَاهُمَا، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا يُدْرَكُ بِالتِّلَاوَةِ وَالرِّوَايَةِ وَهُوَ النَّصُّ، وَمِنْهُ مَا يُدْرَكُ بالاستنباط و [هو] [5] الْقِيَاسُ عَلَى الْمَعَانِي الْمُودَعَةِ فِي النصوص.