أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، يَعْنِي أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَكُلُّهَا حسن، والأحسن بمعنى الحسن، فيثيبهم عليها، وتتجاوز عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَلَا نُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ نَتَقَبَّلُ وَنَتَجاوَزُ بِالنُّونِ، أَحْسَنَ نَصْبٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، وَضَمِّهَا أَحْسَنُ رَفْعٌ. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ، مَعَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [التَّوْبَةِ: 72] .
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ، إِذْ دَعَوَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ، أُفٍّ لَكُما، وَهِيَ كَلِمَةُ كَرَاهِيَةٍ، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ، مِنْ قَبْرِي حَيًّا، وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي، فَلَمْ يُبْعَثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ، يَسْتَصْرِخَانِ وَيَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ عَلَيْهِ وَيَقُولَانِ لَهُ: وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا، مَا هَذَا الَّذِي تَدْعُوَانِي إِلَيْهِ، إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ كَانَ أَبَوَاهُ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَأْبَى، وَيَقُولُ:
أَحْيُوا لِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ وَعَامِرَ بْنَ كَعْبٍ وَمَشَايِخَ قُرَيْشٍ حَتَّى أَسْأَلَهُمْ عَمَّا تَقُولُونَ، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ إسلامه يبطله قوله.
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، الْآيَةَ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُؤْمِنٌ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَمَعْنَى أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، فِي أُمَمٍ، مَعَ أُمَمٍ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ.
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: يُرِيدُ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ ولو بساعة، قال مُقَاتِلٌ: وَلِكُلٍّ فَضَائِلُ بِأَعْمَالِهِمْ فَيُوَفِّيهِمُ اللَّهُ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: وَلِكُلٍّ يَعْنِي وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ المؤمنين والكافرين درجات، يعني مَنَازِلُ وَمَرَاتِبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ درج أهل النار تذهب سفالا، وَدَرَجُ أَهْلُ الْجَنَّةِ تَذْهَبُ عُلْوًا. وَلِيُوَفِّيَهُمْ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالنون. أَعْمالَهُمْ، ليكتمل لهم ثواب أَعْمَالَهُمْ، وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُمْ، أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: أَأَذْهَبْتُمْ، بِالِاسْتِفْهَامِ، وَيَهْمِزُ ابْنُ عَامِرٍ هَمْزَتَيْنِ، وَالْآخَرُونَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ عَلَى الخبر كلاهما فَصِيحَانِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَفْهِمُ بِالتَّوْبِيخِ، وتترك الِاسْتِفْهَامِ فَتَقُولُ: أَذَهَبْتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها، يَقُولُ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ يَعْنِي اللَّذَّاتِ وَتَمَتَّعْتُمْ بِهَا؟ فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ، أَيِ الْعَذَابَ الَّذِي فِيهِ ذُلٌّ وَخِزْيٌّ، بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ، تَتَكَبَّرُونَ، فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ، فَلَمَّا وَبَّخَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بِالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالصَّالِحُونَ اجْتِنَابَ اللَّذَّاتِ فِي