وَفِي الْقِصَّةِ أَنْ مُوسَى رَجَعَ إِلَى مِصْرَ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وفي يده العصى وَالْمِكْتَلُ مُعَلَّقٌ فِي رَأْسِ الْعَصَا، وَفِيهِ زَادُهُ فَدَخَلَ دَارَ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ هَارُونَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إلى فرعون وأرسلني إليك حتى تَدْعُو فِرْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُمَا وَصَاحَتْ وَقَالَتْ: إِنَّ فِرْعَوْنَ يَطْلُبُكَ لِيَقْتُلَكَ فَلَوْ ذَهَبْتُمَا إِلَيْهِ قتلكما فلم يمتنعا بقولها [1] ، وَذَهَبَا إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ لَيْلًا ودق الْبَابَ فَفَزِعَ الْبَوَّابُونَ وَقَالُوا مَنْ بِالْبَابِ؟ وَرُوِيَ أَنَّهُ اطَّلَعَ الْبَوَّابُ عَلَيْهِمَا فَقَالَ مَنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ مُوسَى: أَنَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَذَهَبَ الْبَوَّابُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَالَ: إِنَّ مَجْنُونًا بِالْبَابِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ رسول رب العالمين، فنزل حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَعَاهُمَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُمَا انْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ فلم يؤذن لهم سَنَةً فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَدَخْلَ البواب وقال لِفِرْعَوْنَ هَاهُنَا إِنْسَانٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: ائْذَنْ لَهُ لَعَلَّنَا نَضْحَكُ مِنْهُ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ وَأَدَّيَا رِسَالَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَرَفَ فِرْعَوْنُ مُوسَى لأنه نشأ في بيته.
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، صَبِيًّا، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ، يَعْنِي قَتْلَ الْقِبْطِيِّ، وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ:
يَعْنِي وَأَنْتَ مِنَ الكافرين بإلهك، ومعناه: عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُهُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى قَوْلِهِ وأنت من الكافرين يعني مِنَ الْجَاحِدِينَ لِنِعْمَتِي وَحَقِّ تَرْبِيَتِي، يَقُولُ رَبَّيْنَاكَ فِينَا فَكَافَأْتَنَا أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا نَفْسًا وَكَفَرْتَ بِنِعْمَتِنَا. وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [وَقَالَ] [2] إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا الْكُفْرُ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
قالَ، مُوسَى، فَعَلْتُها إِذاً، أَيْ فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ حِينَئِذٍ، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [أَيْ] لَمْ يَأْتِنِي [3] مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ. وَقِيلَ: مِنَ الْجَاهِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِهِ. وَقِيلَ: مِنَ الضَّالِّينَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُخْطِئِينَ.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، إِلَى مَدْيَنَ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، يَعْنِي النُّبُوَّةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ، اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا فَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَمَنْ قَالَ هُوَ إِقْرَارٌ قَالَ عَدَّهَا مُوسَى نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِ حَيْثُ رَبَّاهُ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ كَمَا قَتَلَ سَائِرَ غِلْمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَسْتَعْبِدْهُ كَمَا اسْتَعْبَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مجازه: بلى وتلك نعمة لك عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَرَكْتَنِي فَلَمْ تَسْتَعْبِدْنِي. وَمَنْ قَالَ: هُوَ إِنْكَارٌ قَالَ قَوْلُهُ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ وهو على طريق الاستفهام أي: أو تلك نِعْمَةٌ؟ حُذِفَ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِهِ: فَهُمُ الْخالِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 34] قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرُوحُ من الحي، أم تتبكر ... وَمَاذَا يَضُرُّكَ لَوْ تَنْتَظِرْ
أَيْ: تروح من الحي، وقال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وِقْفَتَهَا ... وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غرق