وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْوَرَثَةُ. مِنْ وَرائِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: مِنْ وَرائِي بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِإِسْكَانِهَا. وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، لَا تَلِدُ، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، أَعْطِنِي مِنْ عِنْدِكَ، وَلِيًّا.
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِجَزْمِ الثَّاءِ فِيهِمَا عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ، وقرأ الباقون [1] بالرفع على الحال والصفة، يعني وَلِيًّا وَارِثًا، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الإرث، قال الحسن: معناه يرث مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ والْحُبُورَةَ. وَقِيلَ: أَرَادَ مِيرَاثَ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ إِرْثَ الْحُبُورَةِ، لِأَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ رَأْسَ الأحبار. وقال الزَّجَّاجُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مِيرَاثِ غَيْرِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُشْفِقَ زَكَرِيَّا وَهُوَ نَبِيٌّ من الأنبياء أن يرث [2] بَنُو عَمِّهِ مَالَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَافَ تَضْيِيعَ بَنِي عَمِّهِ دِينَ اللَّهِ وَتَغْيِيرَ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا كان يشاهده مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ ولدا صَالِحًا يَأْمَنُهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَيَرِثُ نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ [3] لِئَلَّا يَضِيعَ الدِّينُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، أَيْ بَرًّا تقيا مرضيا.
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ، مَعْنَاهُ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ، بِغُلامٍ، بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ يَحْيَى.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ شَبَهًا وَمِثْلًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] ، أَيْ مِثْلًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ. وقيل: لم يكن له ميل فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدًا وَحَصُورًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيْ لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ مِثْلَهُ وَلَدًا. وَقِيلَ: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ [4] اجْتِمَاعَ الْفَضَائِلِ كُلِّهَا لِيَحْيَى إِنَّمَا أَرَادَ بَعْضَهَا لِأَنَّ الْخَلِيلَ وَالْكَلِيمَ كَانَا قَبْلَهُ وَهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ.
قالَ رَبِّ أَنَّى، مِنْ أَيْنَ، يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، أي يبسا، وقال قَتَادَةُ: يُرِيدُ نُحُولَ الْعَظْمِ، يُقَالُ: عتا الشيخ يعتو عتيا وعتيا [5] ، إِذَا انْتَهَى سِنَّهُ وَكَبِرَ، وَشَيْخٌ عَاتٍ وَعَاسٍ إِذَا صَارَ إِلَى حَالَةِ الْيَبَسِ وَالْجَفَافِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «عِتِيًّا وَبِكِيًّا وَصِلِيًّا وَجِثِيًّا» بِكَسْرِ أَوَائِلِهِنَّ، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ.
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، يَسِيرٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَلَقْنَاكَ بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ يَحْيَى، وَلَمْ تَكُ شَيْئاً.