يخلق الشر. وحملوا ما على النفي وجعلوا الجملة في موضع الصفة أي من شر ما خلقه الله تعالى ولا أوجده وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل انتهى. وأنت تعلم أن القراءة بالرواية ولا يتعين في هذه القراءة هذا التوجيه بل يجوز أن تكون ما بدلا من شَرِّ على تقدير محذوف قد حذف لدلالة ما قبله عليه أي من شر شر ما خلق. وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبل لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه، ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاغتناء بالاستعاذة وادعى إلى الإعاذة والغاسق الليل إذا اعتكر ظلامه، وأصل الغسق الامتلاء يقال: غسقت العين إذا امتلأت دمعا. وقيل: هو السيلان وغسق الليل انصباب ظلامه على الاستعارة وغسق العين سيلان دمعها وإضافة الشر إلى الليل لملابسته له لحدوثه فيه على حدّ نهاره صائم. وتنكيره لعموم شمول الشر لجميع أفراده ولكل أجزائه إِذا وَقَبَ أي إذا دخل ظلامه في كل شيء وأصل الوقب النقرة والحفرة ثم استعمل في الدخول، ومنه قوله:
وقب العذاب عليهم فكأنهم ... لحقتهم نار السموم فأخمدوا
وكذا في المغيب لما أن ذلك كالدخول في الوقب أي النقرة والحفرة وقد فسر هنا بالمجيء أيضا والتقييد بهذا الوقت لأن حدوث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر، ومن أمثالهم الليل أخفى للويل وتفسير الغاسق بالليل والوقوب بدخول ظلامه. أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وابن أبي حاتم عن الضحاك. وروي عن الحسن أيضا وإليه ذهب الزجاج إلّا أنه جعل الغاسق بمعنى البارد وقال: أطلق على الليل لأنه أبرد من النهار. وقال محمد بن كعب: هو النهار، ووَقَبَ بمعنى دخل في الليل وهو كما ترى، وقيل القمر إذا امتلأ نورا على أن الغسق الامتلاء ووقوبه دخوله في الخسوف واسوداده. وقيل: التعبير عنه بالغاسق لسرعة سيره وقطعه البروج على أن الغسق مستعار من السيلان، وقيل التعبير عنه بذلك لأن جرمه مظلم وإنما يستنير من ضوء الشمس ووقوبه على القولين المحاق في آخر الشهر والمنجمون يعدونه نحسا ولذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للمرض إلّا في ذلك الوقت. قيل: وهو المناسب لسبب نزول واستدل على تفسيره بالقمر بما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن عائشة قالت: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما إلى القمر لما طلع فقال: «يا عائشة استعيذي بالله تعالى من شر هذا فإن هذا الغاسق إذا وقب»
. ومن سلم صحة هذا لا ينبغي له العدول إلى تفسير آخر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال: الغاسق إذا وقب الشمس إذا غربت، وكأن اطلاق الغاسق عليها لامتلائها نورا. ونقل ابن زيد عن العرب أن الغاسق الثريا ووقوبها سقوطها وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند ذلك، وروى تفسيره بذلك غير واحد عن أبي هريرة مرفوعا
وفي الحديث: «إذا طلع النجم ارتفعت العاهة»
.
وفي بعض الروايات زيادة عن جزيرة العرب
وفي بعضها: «ما طلع النجم ذات غداة إلّا رفعت كل آفة أو عاهة أو خفت» .
وفيه روايات أخر فليراجع شرح المناوي الكبير للجامع الصغير. وقيل أريد بذلك الحية إذا لدغت وإطلاق الغاسق عليها لامتلائها سما وقتل، أريد سمها إذا دخل في الجسد، وأطلق عليه الغاسق لسيلانه من نابها وكلا القولين لا يعول عليه. وقيل هو كل شر يعتري الإنسان، والشر يوصف بالظلمة والسواد، ووقوبه هجومه. وذكر المجد الفيروزآبادىّ في القاموس في مادة وقب قولا في معنى الآية زعم أنه حكاه الغزالي وغيره عن ابن عباس ولا أظن صحة نسبته إليه لظهور أنه عورة بين الأقوال وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ أي ومن شر النفوس السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها، فالنفاثات صفة للنفوس واعتبر ذلك لمكان التأنيث مع أن تأثير السحر إنما هو من جهة النفوس الخبيثة