أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت إلخ، واختلف في المراد بذلك فقيل: أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياؤهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياؤهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث. وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة، وروي أيضا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية [البقرة: 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا: إن صيغة الأفعال وصيغة التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عد اماتة أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر، ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أسفلها قالوا: إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز عن الآخر فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان، ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع، وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركية مثلا بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها، ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الاستعارة بالكناية فيكون مجازا مرسلا مستتبعا للاستعارة بالكناية، فالمراد بالإماتة هناك الصرف لا النقل، وذكر بعضهم أنه لا بد من القول بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية أو استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل، ومن أجاز ما ذكر لم يحتج للقول بذلك. وفي الكشف آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن، وقد ذكر وجه التجوز، وتحقيق ذلك يبتني على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حيا فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق موت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة، وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعى المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة، وإن جعل التقابل الحقيقي صحت، لكن الظاهر في الاستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى، وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكروه في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا: المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجوديا والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه في ذلك الوقت أن يكون ملتحيا فإن الصبي لا يقال له كوسج، وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيان لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء، وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر.
ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم.
وقال السدي: أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياؤهم في القبر للسؤال