وعن مالك بن دينار نقل الأحجار مع الأبرار خير من أكل الخبيص مع الفجار، وفي قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أنه يلزم من هذا مع قولهم كل ولي على قدم نبي أن يكون لكل ولي عدو يتظاهر بعداوته، وفيه إشارة إلى سوء حال من يفعل ذلك مع أولياء الله تعالى. ولذا قيل: إن عداوتهم علامة سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، وفي قوله تعالى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ إشارة إلى أنهم كانوا متوجهين إلى جهة الطبيعة ولذا حشروا منكوسين، وفي قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا إنه عام في كل من مال إلى هوى نفسه واتبعه فيما توجه إليه، ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى إنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا إليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحسه على الجهاد في سبيل الله تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فأمعن النظر فإذا هي قد ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها، وقيل في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد، وفي قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً إشارة إلى أن كل مركب فإنه سينحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود. وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه إليه عز وجل، وفي قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وهذه مرتبة الصديقين.
وقوله سبحانه: ثُمَّ قَبَضْناهُ كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وأَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائما لا يزول، وإنما يستدل على الذهول بالعرفان، وفي قوله تعالى:
ثُمَّ قَبَضْناهُ إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات وَالنَّوْمَ سُباتاً راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ من التجليات والكشوف وَأَنْزَلْنا من سماء الكرم ماء حياة العرفان لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي قلوبا ميتة وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات وَأَناسِيَّ كَثِيراً وهم الذين سكنوا إلى رياض الإنس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم لِيَذَّكَّرُوا به موطنهم الأصلي فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر الروح وبحر النفس هذا وهو بحر الروح عَذْبٌ فُراتٌ من الصفات الحميدة الربانية، وهذا وهو بحر النفس مِلْحٌ أُجاجٌ من الصفات الذميمة الحيوانية وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة.
وذكر أن البرزخ هو القلب، وقال ابن عطاء: تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة