وجوز أن يكون من باب التمثيل، وأيا ما كان فالمراد إذا كانت بمرأى منهم، وقوله سبحانه: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وفيه استعارة تصريحية أو مكنية وجوز أن تكون تمثيلية، وقد ذكر هذا التأويل الزمخشري مقدما له وذكر بعض الأئمة أن هذا مذهب المعتزلة لأنهم جعلوا البنية شرطا في الحياة.
وفي الكشف الأشبه أن ذلك ليس لأن البنية شرط ومن أين العلم بأن بنية نار الآخرة بحيث لا تستعد للحياة بل لأنه لا بد من ارتكاب خلاف الظاهر من جعل الشيء المعروف جماديته حيا ناطقا فكان خبرا على خلاف المعتاد أو الحمل على المجاز التمثيلي الشائع في كلامهم لا سيما في كلام الله تعالى ورسله عليهم السلام وإذ لاح الوجه فكن الحاكم في ترك الظاهر إلى هذا أو ذاك، وفتح هذا الباب لا يجر إلى مذهب الفلاسفة كما توهم صاحب الانتصاف ولا يخالف تعبدنا بالظواهر فإن ما يدعونه أيضا ليس بظاهر انتهى، وأنت تعلم بعد الإغماض عن المناقشة فيما ذكر أن الحمل على الحقيقة هنا أبلغ في التهويل ولعله يهون أمر الخبر على خلاف المعتاد وهذا إن لم يصح الخبر السابق أما إذا صح فلا ينبغي العدول عما يقتضيه وليس لأحد قول مع قوله صلّى الله عليه وسلم فإنه الأعلم بظاهر الكتاب وخافيه وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً أي في مكان فهو منصوب على الظرفية ومِنْها حال منه لأنه في الأصل صفة، وجوز تعلقه بألقوا.
وقوله تعالى: ضَيِّقاً صفة لمكانا مقيدة لزيادة شدة الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: وَإِذا أُلْقُوا إلخ فقال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط
، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها تضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح.
وقرأ الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يحطهم الداخلون فيزدحمون، وقرأ ابن كثير «ضيقا» بسكون الياء.
مُقَرَّنِينَ حال من ضمير أُلْقُوا أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع، وقيل: مقرنين مع الشياطين في السلاسل كل كافر مع شيطانه وفي أرجلهم الأصفاد، وحكي عن الجبائي، وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل «مقرنون» بالرفع ونسبها ابن خالويه إلى معاذ، ووجهها على ما في البحر كونه بدلا من ضمير أُلْقُوا بدل نكرة من معرفة دَعَوْا هُنالِكَ أي في ذلك المكان الهائل ثُبُوراً أي هلاكا كما قال الضحاك وقتادة وهو مفعول دَعَوْا أي نادوا ذلك فقالوا: يا ثبوراه على معنى احضر فهذا وقتك، وجعل غير واحد النداء بمعنى التمني فيتمنون الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل أشد من الموت ما يتمنى معه الموت.
وجوز أبو البقاء نصب ثُبُوراً على المصدرية لدعوا على معنى دعوا دعاء، وقيل: على المصدرية لفعل محذوف ومفعول دَعَوْا مقدر أي دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبورا وكلا القولين كما ترى، ولا اختصاص لدعاء الثبور بكفرة الإنس فإنه يكون للشيطان أيضا.
أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: إن أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على النار: فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم» الحديث،
وفي بعض الروايات أن أول من يقول ذلك إبليس ثم يتبعه أتباعه، وظاهره شمول الأتباع كفرة الإنس والجن، ولا يتوهم اختصاص ذلك ببعض كفرة الإنس بناء على ما قيل: إن الآية نزلت في أبي جهل وأصحابه لما لا يخفى، وقوله تعالى: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً على تقدير قول إما منصوب على أنه حال من فاعل دَعَوْا أي دعوا مقولا لهم ذلك حقيقة كما هو الظاهر بأن تخاطبهم