خشي غيره سبحانه الفقه فقال: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر: 13] وعلى هذا فحق لمثلي أن ينوح على نفسه، وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم راسخ في القلب، ضاربة عروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف ما يقتضيه إلا إذا غلب القضاء والقدر، وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام: لا تقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم.
وجاء «من اتقى الله أربعين صباحا تفجرت ينابع الحكمة من قلبه»
وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدهم الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل لهم ذلك الفقه ما داموا على تلك الحال ولو ضربوا رؤوسهم بألف صخرة صماء، وعطف سبحانه قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ على قوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
ولذا قال جل وعلا: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ إشارة إلى الجهاد الأكبر ولعله تعليم لكيفية النفر المطلوب وبيان لطريق تحصيل الفقه أي قاتلوا كفار قوى نفوسكم بمخالفة هواها.
وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي قهرا وشدة حتى تبلغوا درجة التقوى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالولاية والنصر أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي يصيبهم بالبلاء ليتوبوا ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وفي الأثر البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان:
32] وقوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً [يونس: 12] وبالجملة إن البلاء يكسر سورة النفس فيلين القلب فيتوجه إلى مولاه إلا أن من غلبت عليه الشقاوة ذهب منه ذلك الحال إذا صرف عنه البلاء كما يشير إليه قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] وقوله سبحانه: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم لتقع الإلفة بينكم وبينه فإن الجنس إلى الجنس يميل وحينئذ يسهل عليكم الاقتباس من أنواره صلّى الله عليه وسلم. وقرىء كما قدمنا «من أنفسكم» أي أشرافكم في كل شيء ويكفيه شرفا أنه عليه الصلاة والسلام أول التعينات وأنه كما وصفه الله تعالى على خلق عظيم:
وعلى تفنن واصفيه بوصفه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي يشق عليه عليه الصلاة والسلام مشقتكم فيتألم صلّى الله عليه وسلم لما يؤلمكم كأن يتألم الشخص إذا عرا بعض أعضائه مكروه، وعن سهل أنه قال: المعنى شديد عليه غفلتكم عن الله تعالى ولو طرفة عين فإن العنت ما يشق ولا شيء أشق في الحقيقة من الغفلة عن المحبوب حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على صلاح شأنكم أو على حضوركم وعدم غفلتكم عن مولاكم جل شأنه بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ يدفع عنهم ما يؤذيهم رَحِيمٌ يجلب لهم ما ينفعهم، ومن آثار الرأفة تحذيرهم من الذنوب والمعاصي ومن آثار الرحمة إضافته صلّى الله عليه وسلم عليهم العلوم والمعارف