حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلي ولم يحجز علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردا لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر بخفي حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البيت، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعودين به وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ بالرد والمواساة فيما حل بأديكم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهرا إلا أنه ليس بالبعيد جدا، ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد. وعكرمة. والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك، هذا ثم إني أعود فأقول:
إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها، ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك، والمراد بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ إلخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه، وعن السدي بعدم التساب.
وعن عطاء كان الإصلاح بينهم «أن دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل: فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ليرد بعضكم على بعض»
وذاتَ كما قيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف. و «بين» اما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف أي أحوالا ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم. وقال الزجاج وغيره: إن ذاتَ هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول: اسقني ذا انائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم.
وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد: إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أولا لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلّى الله عليه وسلّم بالامتثال، وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة.
وقرأ ابن محيصن «يسألونك علنفال» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وادغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور، وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم، وهو يكفي في التعليق بالشرط، والمراد بالإيمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة. وقد يراد بالإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر، فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويؤيد إرادة الكمال قوله سبحانه