وقيل: إن العطف على قوله تعالى: فِي نَفْسِكَ لكن على معنى اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك دون الجهر، والمراد بالجهر رفع الصوت المفرط وبمادونه نوع آخر من الجهر. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو أن يسمع نفسه وقال الامام: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 11] ويشعر كلام ابن زيد أن المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات أي اذكر ربك أيها المنصت في نفسك ولا تجهر بالذكر بِالْغُدُوِّ جمع غدوة كما في القاموس، وفي الصحاح الغدو نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدوا. وقوله تعالى: بِالْغُدُوِّ أي بالغدوات جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال: أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوعها، وهو نص في أن الغدو مصدر لا جمع، وعليه فقد معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو ليطابق قوله سبحانه وتعالى:
وَالْآصالِ وهو كما قال الأزهري جمع أصل، وأصل جمع أصيل أعني ما بين العصر إلى غروب الشمس- فهو جمع الجمع وليس للقلة وليس جمعا لأصيل لأن فعيلا لا يجمع على أفعال، وقيل: إنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وإيمان، وقيل: إنه جمع لأصل مفردا كعنق ويجمع على أصلان أيضا، والجار متعلق باذكر، وخص هذان الوقتان بالذكر قيل لأن الغدوة عندها ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وفي الأصيل الأمر بالعكس، أو لأنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب، وقيل: لأنهما وقتان يتعاقب فيهما الملائكة على ابن آدم، وقيل: ليس المراد التخصيص بل دوام الذكر واتصاله أي اذكر كل وقت.
وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي «والإيصال» ، وهو مصدر آصل إذا أدخل في الأصيل وهو مطابق لغدو بناء على القول بافراده ومصدريته فتذكر وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم ملائكة الملأ الأعلى، فالمراد من العندية القرب من الله تعالى بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزه الله تعالى عن ذلك، وقيل: المراد عند عرش ربك لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ بل يؤدونها حسبما أمروا به وَيُسَبِّحُونَهُ أي ينزهونه عما لا يليق بحضرة كبريائه على أبلغ وجه وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي ويخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به غيره جل شأنه، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين كما يدل عليه تقديم لَهُ وجاز أن يؤخذ من مجموع الكلام كما آثره العلامة الطيبي لأنه تعليل للسابق على معنى ائتوا بالعبادة على وجه الإخلاص كما أمرتم فإن لم تأتوا بها كذلك فإنّا مغنون عنكم وعن عبادتكم إن لنا عبادا مكرمين من شأنهم كذا وكذا فالتقديم على هذا للفاصلة، ولما في الآية من التعريض شرع السجود عند هذه الآية إرغاما لمن أبى ممن عرض به. قيل: وقد جاء الأمر بالسجدة لآية أمر فيها بالسجود امتثالا للأمر، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم، أو حكى فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم، وهذا من القسم الثاني باعتبار التعريض أو من القسم الأخير باعتبار التصريح،
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول في سجوده لذلك كما روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر «اللهم لك سجد سوادي وبك آمن فؤادي اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني»
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في سجود القرآن بالليل مرارا «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين»
وجاء عنها أيضا «ما من مسلم سجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله تعالى بها درجة أو حط عنه بها خطيئة أو جمعها له كلتيهما»
وأخرج مسلم. وابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي