جمال السياق وحسن التصوير في سور القرآن الكريم

انظر إلى السياق والوقف في الآيات فكله في آخره الختام بهذا الوزن، فهذه القصة ساقها الله عز وجل بسياق موافق للسورة نفسها في الوزن وفي فواصل الآيات، فيقول تعالى هنا: {مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:70 - 71]، فالسورة تتميز بالآيات والفواصل القصيرة، وتتميز بالوزن في النهاية، أي: يكون في آخرها الياء والنون، أو الواو والنون وإن كانت تأتي الياء والميم في بعضها، لكن الغالب على هذا الفاصل أن يذكر فيه ياء ونون أو واو ونون في آخرها.

فما أجمل تعبير القرآن وما أجمل تصويره! حيث إنك تجد أنه يكرر السورة في مواضع أخرى ليست بنفس المتن ونفس الفواصل، فإذا نظرنا في سورة الأنعام لوجدنا أن الله عز وجل يذكر قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع عباد الكواكب حين جاء إلى الشام ووجدهم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى.

فقد قال إبراهيم لهؤلاء: هذا ربي الذي تزعمون، وكأنهم ينتظرون الرد من إبراهيم حين قالوا له: نحن نعبد هذا الكوكب من دون الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78] أي: أنا بريء من هذا الشرك ومن هذه العبادات التي تعبدونها، قال تعالى على لسان إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79].

إن سورة الأنعام فواصلها طويلة؛ فجاءت القصة بنفس الفواصل الطويلة مثلها مثل باقي السور، وكذلك يذكر الله في سورة الأنبياء قصة إبراهيم مع أبيه ومع قومه، وهي تأتي على فواصل معينة، والقصة معها على هذه الفواصل، وهذا هو تفنن القرآن العظيم، حيث إنه يذكر قصة في سورة هي نفس القصة في السورة الأخرى، لكن ليست بنفس الصيغة ونفس العبارة، فالقصة قد تكون واحدة لكنه يصيغها بصيغة تناسب سياق السورة التي هي فيها؛ لذلك فأنت عندما تقرأ القصة في كل موضع فإنك لا تمل من ذكرها، ومثل ذلك تجده في قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وغيرها من قصص الأنبياء، حيث إنها ذكرت في عدة سور.

يقول الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]، والأصل: أن يقول: إذ تدعونهم، ولكن مراعاة لفواصل الآيات يقول: إذ تدعون، فأنت حين تسمع صوت الآية، وتسمع وزنها فكأن لها موسيقى، قال تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:72 - 74].

إذاً: فهذه الأصنام لا تسمع، وإبراهيم يقررهم بذلك، وهو يعلم أنها لا تسمع، إذاً: فالسؤال ليس سؤالاً للاستفهام، وإنما هو سؤال للإنكار على هؤلاء، أي: هل تعترفون أنها لا تسمع؟ كما قال تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]، فإذا ناديت الصنم فإنه لا يرد عليك.

وقوله تعالى: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:73] أي: هل يقدر أن ينفعك بشيء هذا الصنم؟ وهل يقدر أن يضرك بشيء لو فعلت به شيئاً؟

صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يفعل شيئاً قال تعالى: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] أي: أن عادة الكفار أن يقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فبما أن آباءنا كانوا على شيء فنحن سنمشي على آثارهم، وسنهتدي بهديهم، ونقتدي بسنتهم، لذلك فالله سبحانه وتعالى هنا يعير الكفار بذلك، فأين عقول هؤلاء الذين يعلمون أن الأصنام لا تنفع ولا تضر حين يقولون: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74].

قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:75 - 76] أي: كلكم على نفس العبادة أنتم والآباء، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أي: أنّ هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله سبحانه أنتم وآباؤكم وكل معبوداتكم الباطلة أعداء لي إلا رب العالمين، فكلمة عدو هنا: بمعنى: أعداء، فكلمة (عدو) هنا اسم جنس بمعنى أعداء، والأصل أن يقول: إنهم أعداء لي إلا رب العالمين، فالكلمة تؤدي معنى الجماعة، فتأتي أحياناً للمفرد وللمثنى وللجمع، وللمذكر وللمؤنث، فتقول: عدو، وتقصد بها الواحد، وتقصد الاثنين، وتقصد الجمع، وتقصد الرجل، وتقصد المرأة، كما هو في اللغة العربية.

وأحياناً يفرقون بين عدو وعدوة، فيقال: الرجل عدو، والمرأة عدوة، وذلك إذا كانت معادية، فقد تقول: فلان عدو لي، أي: أنا أعاديه وهو قد لا ينتبه لهذا الشيء، مثل الأصنام في قوله: {إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:77]، فهي أصنام وجمادات لا تشعر بشيء، ولكن أنا أعاديها؛ لأنكم عبدتموها من دون الله، فتأتي كلمة عدوة بالتاء في آخرها بمعنى: أعاديها وتعاديني.

قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] الاستثناء هنا استثناء منقطع، فكأنه قال: أنتم تعبدون غير الله، فكل الذي تعبدونه من دون الله أعداء لي، والوحيد الذي أعبده هو الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:77] أي: هذه الأصنام أعداء لي، وقوله تعالى: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أي: أعبده وأحبه وحده لا شريك له.

وقبل ذلك ذكر في قصة موسى في هذه السورة نفسها أنّ فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فقال تعال حاكياً عن موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، فقال تعالى حاكياً عن فرعون: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25]، فقال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، فقال الله تعالى حاكياً عن فرعون: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، فقال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28].

لذلك فإن عادة الكفار أن يسألوا: من ربك؟ ومن عادتهم أن يعبدوا أشياء أمامهم، وأن يعبدوا أبداناً وجمادات أمامهم، فإذا قيل لهم: من ربكم؟ قالوا: هذا الصنم أو هذا الحجر أو هذا الخشب أو هذا التمثال، وهي أشياء ماثلة أمامهم؛ لذلك قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {مَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، أي: مصنوع من ماذا هذا الرب؟ أمن ذهب أو من فضة؟ فقال له موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] أي: ربي الذي خلق كل هذه الأشياء سبحانه وتعالى.

وكذلك في قصة إبراهيم لما قال إبراهيم لقومه: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77]، فذكر لهم الرب سبحانه وتعالى، وكلمة الرب بمعنى: الذي يفعل ما لا يقدر غيره على فعله، الرب: هو المربي والفعال والصانع والخالق سبحانه وتعالى، إذاً: ربي الخالق، قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، أي: خلقني وبناء على ذلك فهو أعلم بي ولذلك {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، فهل هذه الأصنام خلقتكم حتى تهديكم؟ فتعبدونها لأن آباءكم عبدوها فاتبعتم هدي آبائكم في ذلك، فمن الذي هدى آباءكم إلى ذلك؟ لقد عبدوا أصناماً من دون الله لا تنفع ولا تضر، ولكني أنا عبدت الله الذي ينفعني والذي يضر سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، تمشي على نفس الوزن الذي قبله الياء والنون، وإن كان الأصل أن يقول: (الذي خلقني فهو يهديني)، بزيادة ياء بعد النون، وهذه قراءة يعقوب، ومثلها قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، أما باقي القراء فيقرءونها بغير الياء سواء وقفاً أو وصلاً.

وقوله تعالى: ((الْعَالَمِينَ)) هي جمع عوالم، أي: كل العوالم العالم العلوي والسفلي وما بينه وكل خلق الله، والرب هو يربه ويدبر أمره، فالله صانعه وخالقه ورازقه ومعطيه سبحانه وتعالى وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي} [الشعراء:78] أي: أنا الذي اهتديت وليس أنتم، فأنا عبدت من خلقني، فهو الذي يستحق العبادة قوله تعالى: {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] أي: يهديني لصراطه المستقيم، أو يهديني لعبادته ويعلمني.

قال تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] أي: أن الذي يطعم هو الله، وأما أصنامكم فلا تط

طور بواسطة نورين ميديا © 2015