قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] والتفهيم فضل من الله يعطيه الإنسان فيشعر أن الخطأ في كذا والصواب في كذا.
فهما نبيان اجتهدا، والنبي إذا اجتهد يكون مأجوراً في اجتهاده، وهل يمكن أن يجتهد النبي ويخطئ؟ نقول: يمكن أن يجتهد ويخطئ، لكنه إذا أخطأ لا يقر على الخطأ، وهذا هو الفرق بين الحاكم وبين النبي.
والوحي مستحيل أن يقع الخطأ ولا يصححه، والنبي لا يقع في الكبائر، والراجح أنهم مبتعدون عن الصغائر لا يقعون فيها، ولكن قد يكل الله عز وجل حكم مسألة لاجتهاد نبي من الأنبياء، ويترك له أن يحكم فيها، فقد يخطئ وقد يصيب، لكن الفرق بينه وبين غيره أنه إذا أخطأ لا يقر على خطئه، بل ينزل عليه الوحي يصوب له ما أخطأ فيه.
فمن هذا الباب كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بين أصحابه، ويقول: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع)، فهو صلى الله عليه وسلم يقضي في المسألة بالبينة وبالشهود، وهذا هو المطلوب منه شرعاً، ولكن إذا أخطأ الشهود أو كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل يعلمه ذلك، ولم ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في كل قضاء قضاه بين اثنين لحكمة من رب العالمين سبحانه، وهي أنه لو كان كل قضاء يقضيه بين الناس ينزل عليه فيه الوحي، فكيف سيصنع الخليفة الذي سيأتي من بعده إذا أراد أن يقضي بين الناس؟ لاشك أنه سيخاف أن يخطئ في الحكم وسيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً وكان الوحي ينزل عليه، فحتى لا يقع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بنحو مما يسمع، فيسمع من الشهود طالما أنهم ثقات، والخطأ في النهاية هم الذين سيتحملونه.
فالأنبياء يقضون بين الخلق، وقد ينزل الوحي فيبين من هو صاحب الحق، مثل الرجل الذي ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاختصم مع رجل آخر، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم، وقال: والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء، فنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن هذا حلف كاذباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أعط الرجل ماله وقد غفر الله لك بتوحيدك) أي: أن هذا الإنسان حين قال في حلفه: والله الذي لا إله إلا هو استحضر عظمة الله عز وجل وتوحيده فكان هذا الحكم خاصاً بهذا الرجل فقط، أو كان قبل أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الجديد وهو أن اليمين الغموس صاحبها في النار.
فهذه قضية من القضايا التي حلف فيها رجل كاذباً أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي يخبره أنه كاذب.
لكن هل في كل قضية من قضاياه صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي؟ لا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذ أو فليذر).
وحتى لا يساء الظن في داود يقول الله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، أي: أن الاثنين على علم عظيم لا تعلمه أنت، فلا تنكر عليهما شيئاً مما صنعوا.
فقد آتينا سليمان فهماً أعظم في هذه المسألة، ففهم ما لم يفهمه داود عليه الصلاة والسلام، فكان حكمه أرفع من حكم داود.