الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الشعراء:1 - 6].
ذكرنا في الحديث السابق أن هذه السورة من السور المكية، والسور المكية لها خصائص منها: أنها تهتم بأمر العقيدة والتوحيد، وذكر ابتلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذكر ما فعل الأقوام مع المرسلين، وما فعل الله عز وجل عقوبة لهؤلاء، فأنزل بهم عذابه وبطشه سبحانه وتعالى.
في هذه السورة يقول الله سبحانه وتعالى: ((تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)) أي: هذه الآيات التي نتلوها عليك هي آيات هذا القرآن العظيم البين الواضح الحجة، الذي يفهمه من يسمعه فلا يحتاج إلى بيان، فهو بين بذاته، وهو نور وبرهان من الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))، يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لعلك مهلك نفسك إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن العظيم، لا، لا تهلك نفسك على آثارهم، ولا تهتم لكفرهم، ولكن عليك أن تدعوهم، فليس عليك إلا أن تبلغ رسالة رب العالمين سبحانه، أما أن يهتدوا أو لا يهتدوا فليس هذا شأنك، وإنما هو بيد الله سبحانه وتعالى.
((إِنْ نَشَأْ ننزل)) أي: لو أردنا أن نلزمهم هذا الإسلام ونلزمهم بالإيمان لجعلناه قهراً وقسراً أن يؤمنوا، ولو شئنا لنزلنا ((عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)) أي: خاشعة وذليلة، ولكن الآية التي جاءت من عند رب العالمين إلى هؤلاء هي هذا القرآن العظيم المعجز، وقد تحداهم الله عز وجل به أن يأتوا بكتاب مثله، أو أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو أن يأتوا بسورة من مثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
قال سبحانه: ((وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)) أي: ما يأتيهم من آيات ومن قرآن فإنه من عند رب العالمين، قوله: ((مُحْدَثٍ)) أي: جديد في نزوله، وقد نزل به جبريل من عند رب العالمين ليخبرهم بهذه الحادثة وهذه الواقعة، وإلا فالقرآن قديم من قبل ذلك.
قال سبحانه: ((فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)) أي: هؤلاء المشركون قد أعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كذبوه فيما جاء به من عند ربه، فيهددهم الله سبحانه بقوله: ((فسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون))، فقد كانوا يستهزئون بالموت، وبالبعث وبالنشور، وبالحساب، وبانتقام الله عز وجل منهم، وبوعده للمؤمنين أن يمكن لهم، فسيأتي نبأ هذا كله، ففي يوم من الأيام سيموتون ويرجعون إلى ربهم ويعلمون كيف كانوا يستهزئون بما هو الحق من عند رب العالمين، ولذلك قال لهم: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82].
كم ضحك الكفار مستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وكم بكوا بعد ذلك لما لقوا ربهم؟ ولذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر في يوم بدر وقد ألقيت فيه جثث الكفار رءوس الكفر، وقف يناديهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟) أي: هل وجدتم الآن وأنتم في هذا القليب في هذا البئر المطمور عليكم هل رأيتم ما وعد الله عز وجل من نصر الإسلام والمسلمين، ومن خذلانكم، ومن عذابكم؟! (فقال عمر: يا رسول الله! كيف يسمعون وقد بليت أجسادهم؟ فيقول له: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، فقد أسمعهم الله عز وجل ما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه لهم، فجاءتهم أنباء ما كانوا به يستهزئون.
فهذه السورة مكية، وهي تتهدد هؤلاء الذين كذبوا رسوله وكذبوا كتابه، وفعلاً حدث بعد ذلك بهم ما أخبر الله به، وصدق الله العظيم سبحانه وتعالى.