تفسير قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً)

ومن صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، والمبيت: قضاء الليل سواء كان الإنسان نائماً أو يقظان، كما نقول: بت البارحة سهران، فهؤلاء يبيتون أي: يمضي عليهم الليل وهم قائمون لله عز وجل، فيقضون ليلهم بين القيام والسجود، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].

وليس المعنى: أنهم يصلون الليل كله ولا ينامون فيه، فإن هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا على الندرة، ولم يمض الليل كله قائماً صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، ولكنه كان يقوم كثيراً من الليل، كما أمره الله عز وجل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:2 - 4].

أي: نصف الليل، أو أقل من نصفه، أو أكثر قليلاً من نصفه، ثم قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4].

وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي لله سبحانه، فيقوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه)، أي: أنه كان يقسم الليل بين قيام ونوم؛ حتى يفهم ما يقول، وحتى يواظب على ذلك، فإن أحب العمل إلى الله عز وجل أدومه وإن قل، فالمؤمن يواظب على قيام الليل، فيصلي بالليل ولو ركعتين، أو يصلي أكثر من ذلك، فيصلي كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، بحسب ما ييسر الله عز وجل له من ذلك.

فعباد الرحمن لا يصلون ليلة واحدة فقط، ولا يقومون الليل في رمضان فقط ويتركونه في غير ذلك، بل قد مدحهم الله عز وجل بالمداومة على ذلك، وبين أنهم {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ} [الفرقان:64]، يعني: كل ليلة، فهذا دابهم وعادتهم، إلا ما شاء الله سبحانه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، أي: يراوحون بين ذلك فإنهم يقومون قياماً طويلاً، ثم يركعون ركوعاً طويلاً، ثم يسجدون سجوداً طويلاً، فالليل راحتهم، وقيام الليل جنتهم، فيقومونه لله سبحانه، ويستعينون به على طاعته سبحانه، ولذلك مدحهم الله عز وجل، وأخبر عن قيام الليل بقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].

والناشئة: القيام، يعني: فإذا كنت نائماً مستريحاً ثم قمت لتصلي فإن هذا القيام يكون فيه فهم وتدبر لمعاني آيات كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، أي: أن ما تقوله بلسانك أشد مواطئة وموافقة لما في قلبك، فتفهم بعقلك وبقلبك ما ينطق به لسانك، فيكون هناك مواطئة بين الاثنين -القلب واللسان- قال تعالى: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، أي: أقوم استقامة، وأقوم قولاً، والقيل بمعنى: القول، أي: أن ما ترتله تفهمه وتجيد نطقه؛ لأنك قد استرحت بالليل، ثم قمت في وقت نوم الناس تصلي لله سبحانه وتعالى؛ لتكون من عباد الرحمن.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجداً وقائماً.

وكأنه يقصد من صلى العشاء ثم ذهب إلى بيته فنام، ثم قام فصلى من الليل ولو ركعتين، فهذا يكتب له أجر هذه الليلة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015