ثم قال سبحانه: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ} [النور:32]، فوعد من الله سبحانه أن الإنسان الذي يتزوج ابتغاء العفاف أن الله عز وجل سيغنيه من فضله.
وفي قوله تعالى: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] ثلاث قراءات: فقراءة أبي عمرو، وروح عن يعقوب: (يُغْنيِهِمِ الله من فضله).
وقراءة حمزة والكسائي وخلف ورويس أيضاً: (يغنيهُمُ الله من فضله) بضم الهاء والميم؛ لأن أصل حركة الضمير الضم، فمشى مع هذا الأصل.
وقراءة باقي القراء: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، بكسر الهاء وضم الميم.
والله سبحانه وتعالى واسع الرحمة، واسع الفضل، واسع الغنى، فلا تقتر على خلق الله سبحانه.
والله عليم بمن يستحق أن يغنيه، فكم من إنسان يتزوج ويكون فقيراً، فتكون البركة في هذا النكاح.
وكم من إنسان يتزوج ويكون قد قدر عليه رزقه في هذا النكاح، فالله أعلم بمن يستحق فضله، فنحن نرى شيئاً والله عز وجل يرى قلوب العباد ما الذي فيها، وما الذي يستحقونه.
فقد وعد في كتابه فقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فهناك إنسان يتقي ربه سبحانه، ويتوكل عليه، ويمشي في الأمر فييسره الله عز وجل، وهناك إنسان يجرب ربه فيقول: سأتزوج فأنظر هل سيغنيني أم لا؟ والله جل في علاه لا يجرَّب، لكن إن تثق في الله عز وجل يعطك، وإن تتوكل على الله فالله نعم المولى ونعم الوكيل ونعم النصير.
ولذلك فالإنسان الذي يثق بالله عز وجل يقول له: (أنا عند ظن عبدي بي)، فظن بالله خيراً؛ فإن الله عز وجل عند حسن ظنك به.
أما أن تجرب ربك وكأنك لم تحسن الظن به، وكأنك تشك في وعده سبحانه وتعالى، فلا يستحق فاعل هذا إلا ما يشاءه الله سبحانه.
ففقر الإنسان لا يمنعه من الزواج طالما أنه يملك شيئاً يتزوج به، ويجد من ترضى به على حاله، فليتزوج ولينتظر الفضل والرزق من الله سبحانه، وإذا كان شديد الفقر لا يقدر أن ينفق على من يتزوجها، فليصبر في هذه الحال.
وفرق بين إنسان رزقه قليل فيستطيع أن يعيش عيشة متواضعة في مكان يسير، وعلى قدر حاجته، وينفق على المرأة التي يتزوجها وهي ترضى بهذا، فهذا خير وبركة وتيسير من الله سبحانه وتعالى، ولذلك هنا جاء في الحديث ما يبين أن الفقر لا يمنع من الزواج، وأن الإنسان الفقير طالما أنه يجد شيئاً فليتزوج.
ففي الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني وهبت لك نفسي)، وهذا جائز للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50]، وهذا الحكم له وحده فقط صلى الله عليه وسلم، لذلك قال الله عز وجل: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].
فلما قالت المرأة ذلك سكت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا في الحديث أنها قامت قياماً طويلاً، فقال رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم: (زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة) يعني: كأن الرجل وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يتزوجها، وكان شديد الحياء، فاستحيا أن يقول لها: لا، وهذا من أدبه الجم عليه الصلاة والسلام.
فالرجل استشعر ذلك، والمرأة تريد الزواج، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها؟)، ولم يقل: اذهبي وهاتي أولياءك؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، فهو أولى بها من أبيها وأخيها ومن نفسها أيضاً.
فقال لهذا الرجل -وقد نظر لمصلحة المرأة الآن-: (هل عندك من شيء تصدقها) يعني: لم يسأله هل عنده بيت أو مكان يتزوجها فيه، ولكنه سأله عن المهر.
فقال الرجل: (ما عندي إلا إزاري) أي: ليس عندي شيء إلا الإزار الذي ألبسه، فقال: (إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك) يعني: ماذا ستعمل؟ وكيف ستصلي وقد أعطيتها وأصبح ملكاً لها؟! ثم قال: (التمس شيئاً، فقال: ما أجد شيئاً، فقال التمس)، وكانوا فقراء، فالرجل منهم يذهب يعمل ويأتي بطعام يومه أو وجبته، فهذا الذي يملكه، فإذا تزوج فإنه يستطيع أن يطعم المرأة كل يوم، ولكن لابد للمرأة من مهر، فالرجل لم يجد، فقال: (التمس ولو خاتماً من حديد) ولم يقل له: من ذهب أو من فضة، لأنه لن يستطيع أن يأتي به، ولكن ولو خاتماً من حديد، فلم يجد، فقال: (أمعك من القرآن شيء، فقال: نعم، سورة كذا وكذا، وسورة كذا، لسور سماها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجناكها بما معك من القرآن) يعني: مهرها الآن السور التي معك، فإذاً: أنت ملزم أن تحفظها الذي تحفظه من القرآن، فهذا هو مهر هذه المرأة.
والغرض من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد الرجل فقيراً لا يملك أن يدفع مهراً، ومع ذلك لم يقل له: لا تتزوج، فطالما أنه يقدر على أن يأتيها بطعام يومها، وأنه يستطيع أن ينفق عليها ما تحتاجه من ضروريات الحياة، إذاًَ: فعلى ذلك له أن يتزوجها ولو كان المهر شيئاً يسيراً.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من بركة المرأة يسر مهرها)، فيكون مهراً يسيراً خفيفاً، وهذا من بركة المرأة أن تتزوج فيكون الزواج يسيراً لا مشقه فيه، وأيضاً ما إن تتزوج حتى تنجب فهذا من بركة المرأة.