الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها أحكاماً في يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
وقد قدمنا قبل ذلك أن الله سبحانه حرم أعراض المؤمنين كما حرم دماءهم وأموالهم، فالمؤمن لا يحل له أن يقع في عرض أخيه المؤمن أو المرأة المؤمنة، فلا يتكلم عنه بما يسوءه وما لا يحل له الكلام فيه، بل لو أنه رأى فيه ما لا يجوز فينبغي عليه أن ينصح، وأما القذف بجريمة الزنا فلا يجوز لأحد أن يقع فيه إلا أن يأتي بأربعة شهود على هذا الذي يقوله، فإن لم يفعل ذلك فهذا إنسان كذاب كما وسمه الله عز وجل بذلك، مع أنه قد يكون رأى ذلك بنفسه ولكن الشريعة لم تبح له أن يتكلم حتى يكون معه أربعة يشهدون على ذلك، فأخبر: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
فهم في الدنيا ملعونون، وفي الآخرة مطرودون من رحمة رب العالمين سبحانه، قال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].
وقدمنا كيف أن الإنسان يأتي يوم القيامة يجادل عن نفسه فإذا بأعضائه تشهد عليه بما كان يصنعه يوم القيامة، فيوفيهم الله عز وجل جزاءهم وعقابهم الوافي الذي يستحقونه، جزاءً على ما قدموا، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25].
فالله سبحانه وتعالى يحق الحق، ويأبى أن يدوم الباطل، فإنه وإن ترك أهل الباطن ففي النهاية يقصمهم سبحانه وتعالى، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
فمن أسماء الله تعالى الحق، وهو يحق الحق يوم القيامة، فيرون كيف يحكم الملك الحق بالعدل المبين، ويظهر الحق يوم القيامة فهو الحق المبين، أي: المبين المظهر لهذا الحق يوم القيامة، والمبين في الدنيا للناس طريق الهدى، وما يحتاجون إليه من شرع رب العالمين سبحانه.
والله هو الحق المبين أي: الحق الثابت بذاته، الظاهر في ألوهيته سبحانه وتعالى.
والله الحق أي: هو ذو الحق وصاحب الحق البين، فيعلمون يوم القيامة أن الله هو الحق المبين الذي يبين لهم حقائق ما كانوا يعملون في الدنيا، وما كان يتوعدهم عليه فيها فيظهره سبحانه.
ثم قال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26]، والخبيثات وصف لمحذوف تقديره: الكلمات، والمعنى: أن الكلمة الخبيثة لا تخرج إلا من إنسان خبيث، والكلمة الطيبة لا تخرج إلى من إنسان طيب.
ثم قال: {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26] يعني: لا ينتظر من خبيث إلا كلاماً خبيثاً كلاماً غير طيب.
قال تعالى: {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] يعني: المنتظر من الأناس الطيبين المؤمنين أن يتفوهوا ويتكلموا بالكلام الطاهر الطيب الجميل، فكأن هذه أوصاف للكلمات وأوصاف لأصحابها.
ثم قال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] يعني: أن الطيبين والطيبات بريئون مما يقول هؤلاء المنافقون وهؤلاء الفساق, ومما يرمونهم به من كلام خبيث، كأن المقصود بذلك عائشة رضي الله تعالى عنها وصفوان، فهؤلاء الطيبون، ولا يخرج منهم إلا الطيب، وهؤلاء قد برأهم الله عز وجل مما وقع في أعراضهم من أهل الكذب وأهل النفاق.
وقيل: إنها تحمل على ما تقدم قبل ذلك في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله)، وكأن المعنى المقصود: أن الزاني المجلود مفضوح أمام الناس؛ فقد شهد عليه أربعة بهذه الجريمة، فإذا كان عاهراً مجاهراً بذلك ولم يتب فلا يجوز لإنسان أن يزوج ابنته الطيبة لمثل هذا الإنسان الخبيث الذي يجاهر بهذا الزنا، أو بهذه الأفعال الفاحشة، فهذا يتزوج امرأة مثله في ذلك.
لكن إذا تاب وعلمت توبة، وإذا تابت المرأة وعلمت توبتها، جاز أن يتزوج الرجل وأن تتزوج المرأة، وأما أن يغر إنسان طيب بمثل ذلك فهذا يعد عيباً من العيوب، فلا ينبغي لمسلم أن يتزوج مثل هذه، وإنما يبحث عن المرأة الطيبة كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، فالإنسان المؤمن يتزوج لقضاء وطره، وهذا شيء ولكن ليس هو كل شيء، وإنما يتزوج أيضاً لتكون له أسرة طيبة، وأولاد طيبون ينفعونه في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا ينفعونه بالبر والإحسان، فإذا كبر الإنسان احتاج إلى أولاده، فيكونون بجواره يعينونه على طاعة الله سبحانه وتعالى، فإذا مات دعوا له، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].
فالبيت الطيب ينفع صاحبه والبيت الخبيث يضره دنيا وآخرة، لذلك فالمؤمن يكون حريصاً على أن يكون بيته بيتاً مؤمناً، فيظفر بذات الدين، وإلا فتربت يداه.
وقد ذكر بعض أهل العلم عن عائشة رضي الله عنها أنها أعطيت تسعاً لم تعطهن امرأة من نسائه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل فضلها بذلك، فذكر بعض أهل العلم عن عائشة أنها قالت ذلك، وإن كان إسناده ضعيفاً إليها، فمما أعطاها سبحانه: أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عائشة رضي الله عنها حين أمر أن يتزوجها كما صح بذلك الحديث، فنزل في سرقة من حرير وقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة، فكانت عائشة رضي الله عنها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بإعلام الله عز وجل له في ذلك.
كذلك تزوجها بكراً، وما تزوج بكراً غيرها.
وكذلك توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجرها رضي الله عنها، وكانت تقول: توفي رسول الله ما بين حاقنتي وذاقنتي، تعني: على صدرها تحت ذقنها.
فلا شك أن لها فضيلة أن يجعل الله عز وجل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون إليها.
وقالت: إنه قُبر في بيتها، وهذا موجود حتى الآن، وهو دليل على فضيلة عائشة رضي الله تعالى عنها.
والملائكة تحف بيت عائشة رضي الله عنها؛ لأن فيه قبر النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا كان في أهله لا يأتيه جبريل حتى ينصرف عن أهله، وأما عائشة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معها فجاءه جبريل وبلغها السلام، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ترى ما لا أرى.
وتقول: إن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، فما يبعدني عن جسده صلوات الله وسلامه عليه.
وقد أنزل الله عز وجل عذرها في كتابه، وبرأها مما قال الكذابون عنها.
وكذلك أبوها أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال الله عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40].
وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وزن إيمانه بإيمان الأمة لوزنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك وعدها الله عز وجل بمغفرة ورزقاً كريماً على أنها إحدى زوجات لنبي صلى الله عليه وسلم، ثم خصها في هذه الآية فقال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
وذكروا أيضاً في فضائل عائشة رضي الله عنها: أن يوسف عليه السلام، لما رمي بالفاحشة برأه الله عز وجل على لسان شاهد، فقال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:26 - 28].
فبرأه الله عز وجل على لسان إنسان قال ذلك، قيل: كان صبياً صغيراً أو كان رجلاً كبيراً فالله أعلم بذلك، فكان على لسان بشر.
والمسيح صلوات الله وسلامه عليه لما رموا أمه وقالوا: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27].
أنطقه الله سبحانه فقال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، فأجاب عن نفسه وعن أمه.
فلما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك برأها الله عز وجل ولم يجعل براءتها على لسان أحد من الناس، لا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، ولا على لسان أحد يدافع عنها، وإنما في كتاب الله عز وجل، بآيات تتلى إلى يوم القيامة، فجعل لها فضيلة أن ذكر شأنها في كتابه في هذه السورة الكريمة.