قال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، وهذا متعلق بما قبله، فلهم عذاب عظيم، إذاً: فهم ملعونون في الدنيا والآخرة: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، أي: في يوم القيامة، وفي هذا اليوم يقول سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف (يوم يشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)، ففصل بين الفعل والمفعول بالجار والمجرور، وهي كلمة: عليهم، فجاز فيها الوجهان، إما التأنيث على الأصل فيها، وإما التذكير على أنه فصل بين الفعل والمفعول بهذا الضمير.
قال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} [النور:24] يعني: يوم القيامة {أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات حديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات)، والموبقة هي المهلكة، وهي من عظائم الذنوب التي تهلك صاحبها، قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، فهذه الخصال من كبائر الذنوب.
فبدأ بالشرك بالله، ثم السحر وهو من الكفر، وذكر من الجرائم العظيمة قتل النفس، قال: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، إذاً: فمن أعظم الكبائر الوقوع في هذه الأشياء.
والحديث هنا لم يذكر فيه أشياء أخرى هي من الكبائر، وكأن هذه الأشياء من أعظم الكبائر.
إذاً: فاللسان يشهد على صاحبه، فالإنسان كان يتكلم في الدنيا بلسانه، وعقله يوجه لسانه إلى كيفية الكلام، فيكذب ويصدق ويخبر، وأما يوم القيامة فالله سبحانه هو الذي يجعل اللسان ينطق بالحق، ولا يستطيع عقل الإنسان أن يوجه اللسان في تلك اللحظة، وإذا باللسان الذي كان يجادل عن صاحبه في الدنيا يشهد عليه يوم القيامة: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ} [النور:24] أي: وتنطق أيدي هؤلاء بما كانوا يقترفون، {وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، فكل هذه الجوارح تنطق يوم القيامة، فيومئذ يكون الجزاء وافياً، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25]، والدين هنا بمعنى: الجزاء والحساب، كما قال سبحانه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].
وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم توضح نطق أعضاء الإنسان يوم القيامة بالخير شاهدة له، أو بالشر الذي كان يفعله في الدنيا.
فمن الأحاديث التي جاءت في أمر الخير: حديث رواه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود أيضاً من حديث يسيرة -امرأة من المهاجرات- قالت: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسئولات مستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة)، فأمرهن بالتسبيح والتهليل والتقديس، أي: ذكر الله سبحانه بقول: سبحان الله، وقول: لا إله إلا الله، وهذا معنى التسبيح والتهليل، وأما التقديس فمعناه: أن تقول: سبوح قدوس، فتقدس ربك سبحانه.
قال: (واعقدن بالأنامل)، والأنملة: هي طرف الأصبع، فالأفضل أن يسبح الإنسان بيده؛ لأن الأنامل تنطق يوم القيامة أنها كانت تسبح لله سبحانه وتعالى.
قال: (فإنهن مسئولات مستنطقات) أي: الأنامل، فسيسألن وسيطلب منهن النطق والشهادة لصاحبهن.
قال: (ولا تغفلن فتنسين الرحمة) يعني: عن ذكر الله سبحانه، فإذا غفل الإنسان عن ذكر الله نسي رحمة الله، فنُسي يوم القيامة، فهذا في الخير.
وأما في الشر فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أنس قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تدرون مما أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ -يعني: يحتج على الله سبحانه وتعالى، وهو كذاب فيما يحتج به- يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول الله تبارك وتعالى: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، وهذا من كذب العبد وإجرامه، فهو يريد أن يكذب على الملك سبحانه وتعالى، وهو يظن أن جوارحه ستنطق بما ينفعه يوم القيامة، وهذا كما قال سبحانه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
قال: (فيقال: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيدعو على نفسه: بُعداً لكنّ فعنكن كنت أناضل)، أي: أدافع عنكن ثم تشهدن علي؟! فما نفعته أعضائه يوم القيامة، بل شهدت عليه.
والآية أخبرت أن اللسان أيضاً ينطق شاهداً على العبد، وجاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست دونها سحابة؟)، أي: هل يصيبكم الضرر أو يزدحم بعضكم على بعض؟ وفي رواية: (هل تضامون؟)، يعني: هل يظلم بعضكم بعضاً من أجل النظر إلى الشمس؟ بل كل الناس ستنظر من مكانها.
إذاً: فليس أحد في الدنيا يتضرر أو يزدحم عند رؤيته الشمس، فكذلك الحال في النظر إلى الجبار جل جلاله، ولله المثل الأعلى سبحانه، قال: (فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما)، والمعنى: لن تتضرروا في رؤية ربكم سبحانه تعالى، ولن تزدحموا لتروا ربكم، بل سيرى كل مؤمن ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة.
قال: (فيلقى العبد) أي: يلقى الله عبده، (فيقول: أي فل!)، أصلها: أي فلان! (ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟) أي: سخرت لك هذه النعم العظيمة، قوله: (وأسودك) من السيادة، أي: أجعلك سيداً ورئيساً على قومك، (وأزوجك) أي: أعنتك وجعلتك تتزوج، (وأسخر لك الخيل والإبل)، فكنت أنت المالك لها، والمتحكم فيها، والمسيطر عليها، (وأذرك ترأس وتربع) يعني: تركتك تترأس على قومك (وتربع)، أي: ترتع كما تشاء، أو: تملك الرباع، وتملك الأطيان والديار، أو: تأكل مرباع قومك، قال: (فيقول: بلى، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ -أي: هل خطر على بالك أنك ستقف هذا الموقف؟ -فيقول الرجل: لا، فيقول: سبحانه: فإني أنساك كما نسيتني) أي: مثلما نسيت أنك ستقابل ربك وأنه سيحاسبك.
قال: (ثم يلقى الثاني، فيقول: أي فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول الثالث: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول له: هاهنا)، أي: قف هنا؛ لأنه يعلم أنه كذاب، فيحاسبه الله حساباً عسيراً، ثم يقال له: (الآن نبعث شاهدنا عليك)، فيفكر في ماهية هذا الشاهد ومن يكون، قال: (فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه)، فهذا الإنسان تنطق أعضاؤه بالشهادة عليه أنه فعل كذا وفعل كذا، وفي الحديث الذي قبله ذكر: أنه يدعو على نفسه، ويدعو على أعضائه إذا شهدت عليه.
وهنا في الآية يقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24]، فلسان الإنسان أيضاً ينطق شاهداً عليه يوم القيامة، قال: {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] أي: بكل ما كانوا يعملون في الدنيا، قال: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25] أي: جزاءهم الحق، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25]، أي: في يوم القيامة {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور:25] أي: الحكم العدل سبحانه وتعالى، فهو الحق الذي يحق الحق سبحانه وتعالى، ويعلمون أن ما سواه مما عبدوه من دون الله باطل، وأن الله هو الحق وحده سبحانه وتعالى، {الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] أي: الظاهر الجلي، والمبين كذلك: الذي يبين شريعته ومنهاجه ويظهرهما، فيبين طريق الهدى وما يحتاج إليه خلقه من شرعه سبحانه وتعالى، قال: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور:25] قالوا: بمعنى: يبين لهم الحقائق ويظهر حقائق ما كانوا يصنعونه في الدنيا، وما كان يعدهم به من ثواب ويهددهم به من عذاب يوم القيامة، فالله هو الحق المبين.