قال الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، فقوله سبحانه: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] الخطاب هنا للمؤمنين، وهذا فيه تهييج داعي الإيمان في القلوب، كما تقول لإنسان: إذا كنت رجلاً فتعال لي، مع أنه رجل أمامك وليس امرأة، ولكن تريد تهييجه ليفعل ذلك.
فكذلك هنا الله عز وجل كأنه يقول: إن كنتم مؤمنين فافعلوا ذلك، فكل إنسان يخشى أن يسلب منه هذا الإيمان إذا ترك أمر الله سبحانه وتعالى، فإنه يفعل ما أمر الله عز وجل به من إقامة هذا الحد.
قوله: ((وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ))، قراءة الجمهور: ((رَأْفَةٌ)) بتسكين الهمزة، وأما قراءة ابن كثير (رَأَفَةٌ في دين الله) بفتح الهمزة.
والرأفة هي الرحمة، وهي أرق الرحمة، والمعنى: لا تأخذكم بهما رقة وأنتم تفعلون ذلك، فلا تخففوا الضرب من غير إيلام؛ لأن الله سبحانه هو أولى بالرحمة منكم إذا كان هذا يستحق الرحمة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة، ثم قرأ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، وجاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (حد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً)، والمطر أربعين صباحاً يأتي بالبركة من السماء، فإقامة الحد سبب في نزول البركات من السماء؛ لأن الحد فيه أمر بمعروف ونهي عن منكر، وفيه ردع لأصحاب المعاصي عن معاصيهم، وفيه أن أخذ الناس لحقوقهم بإقامة الحد، فمن حُدّ في الدنيا سقط عنه العذاب يوم القيامة، وكذا الإنسان إذا ظلم بأن قذفه آخر أخذ حقه بأن يقام على الظالم حد القذف مثلاً.
إذاً: إذا وجد شرع الله عز وجل بين الناس في الدنيا وحكم فيما بينهم؛ فإنهم يستحقون الرحمة، ويستحقون أن يوصفوا بالإيمان، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، فإقامة الحدود دليل الإيمان والتقوى وتنزل البركات من السماء والأرض.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] أي: ليشهد إقامة الحد عليهما طائفة من المؤمنين، وقالوا: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب، أي: لا يشهد هذا الحد إلا من وصفهم الله عز وجل بأنهم من أهل الإيمان، فخرج بذلك الفساق.
كما أنه إذا كان الحاضرون من المؤمنين فقد يدعون الله عز وجل أن يتوب عليه، فيتوب الله عز وجل عليه، فلذلك قال العلماء: المقصود بذلك الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضور الناس، وأن ذلك يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله.